Site icon اهل البيت في ليبيا

المرجعية الفكرية والعمل السياسي

يعتبر العمل السياسي أحد الأنشطة الإنسانية القائمة على الأساس الفكري؛ لذلك فإن أبرز أدواته الخطاب الذي يشكل مادة الإعلام ووسيلة التواصل، وعلى هذا الأساس الفكري تصاغ البرامج الانتخابية وتتخذ المواقف، وإذا كان العمل السياسي الغرض منه تحقيق المصلحة العامة، والتي منها المصلحة الخاصة المتحققة في إطار المصلحة العامة، فإنه كان لابد من وجود مرجعية للتيارات المنخرطة في الممارسة السياسية حتى تكون هذه المصلحة منضبطة لديها، ويمكن من خلالها أن ترسم لنفسها خطاً سياسياً واضحاً يضفي عليها المصداقية ويكسب مواقفها الاتزان ويجنبها الوقوع في مآزق التخبط والتناقض.

كما أن العمل السياسي بطبيعته القائمة على التنافس والتعددية يستدعي في كثير من الأحيان دخول التيارات المختلفة في تكتلات وتحالفات تستلزمها البيئة السياسية أحياناً، ووجود المرجعيات الواضحة لمختلف التيارات في هذه الحالة يكون له دوره المهم في رسم حدود هذه الشراكات وتحديد طبيعة هذه التكتلات، مما يحقق الاستقرار للعمل السياسي ويخفف دائما من أجواء الحدة والتوتر فيه، ويشيع مناخ من الثقة في البيئة السياسية.

لهذا فإن انعدام المرجعية الفكرية للعمل السياسي أو وجودها في حالة من التشويش وعدم الانضباط يجعل من الممارسة السياسية حالة من العبث والارتجالية والتخبط والتناقض في المواقف.

والراصد لمرجعية تياراتنا السياسية يجد أن التيارات التي ترفع شعارات المدنية تعاني حالة من التخبط والارتباك في تحديد مرجعياتها، حيث أن تمسكها بالمرجعية المدنية لتبرير مواقفها مثلاً يثير تساؤلاً في تحديد مفهوم المدنية لديها، فإن قلنا أن المدنية يقصد بها في هذا السياق الممارسة السياسية من خلال التداول السلمي على السلطة وضمن إطار دستوري وقانوني، واعتراف بالتعددية وتقبل للآخر واحترام للحريات دون إقصاء أو استقواء على الخصوم باستدعاء العسكر للحياة السياسية، فالمدنية بهذا الاعتبار أمريجب أن ترتضيه كل تيارات العمل السياسي، ولكن إذا رصدنا واقع الممارسة السياسية لهذه التيارات نجدها غالباً ما لجأت إلى دعم العسكر والمحاولات الانقلابية من أجل إقصاء الخصوم مما أدى في نهاية الأمر إلى القضاء على الحياة المدنية التي لا يمكن أن تستمر في ظل انبعاثات الدكتاتورية العسكرية الخانقة.

كما أن بعض هذه التيارات تجعل من الوطنية مرجعية لها، فهي تجعل منها الضابط لمواقفها واجتهاداتها السياسية، وإذا كانت الوطنية هي صون سيادة الوطن والخضوع لسلطة قانونه ومراعاة مصلحته وعدم الإضرار به، فإن أي تيار سياسي لا يمكنه الخروج عن الوطنية، لأنها بهذا المفهوم تمثل الإطار العام للممارسة السياسية لمختلف التيارات، والتي يجب أن تنحصر المصلحة ضمن إطارها هذا ولا تتعداه.

ومن هنا يتضح أن جعل المدنية والوطنية مرجعية للعمل السياسي دون وجود مرجعية أخرى لا يعدو كونه تشبعاً بالشعارات دون أن يكون لهذه التيارات خط سياسي واضح تسير عليه، لذلك فإن كثير من هذه التيارات لم تجد بدّاً من أن تقتات وتعتاش على خصومة التيارات الأخرى ذات المرجعية الإسلامية على الخصوص، وترفع مستوى العداء معها مما أدى إلى حالة من الاحتقان السياسي والتوتر المستمر الذي أتاح للعسكر فرص التدخل في الحياة السياسية بمباركة التيارات المدنية.

وفي الجانب الآخر فإن كثيراً من تيارات الإسلام السياسي رغم تبنيها للمرجعية الإسلامية، فإنها تعاني من اختلال في ضبط مواقفها السياسية بناء على هذه المرجعية، ولعل السبب في ذلك هو عدم إدراك كثير من المنخرطين في تيارات الإسلامي السياسي لوظيفة المرجعية الإسلامية لتياراتهم وأحزابهم، حيث أنه يغيب عن وعيهم أن المقصد الأول من وجود مرجعية إسلامية للعمل السياسي هو ضبط المصلحة المرجوة والمتوخاة منه بضوابط الشريعة الإسلامية ومراعاة مقاصدها، واعتبار المآلات المترتبة عن المواقف السياسية وموازنة ذلك بجلب المنافع ودفع المضارّ، لذلك فإننا نجد تنوعاً وتبايناً في مواقف كثير من تيارات الإسلام السياسي مرونةً وصلابةً بحسب فهم كل تيار وإدراكه لوظيفة المرجعية الإسلامية في ضبط السلوك السياسي.

إلا أن التيارات الإسلامية بتبنيها في العموم مرجعية ثابتة التأصيل وفيها قدر عالٍ من المرونة وحيّز واسع من الاجتهاد، فإنها من خلال مراجعة مواقفها وتقييم سلوكها تمكنت من أن تكون جزءاً مهماً وركناً ثابتةً في العملية السياسية يعطي وجودها البيئةَ السياسية مناخاً من الحيوية وجواً من التنافس المطلوب لدوران عجلة العمل السياسي، ومتى غابت هذه التيارات أو قيّدت تراجع مستوى النشاط السياسي وأصيبت الحياة السياسية بالشلل أو الفتور، وهذا يفرض على التيارات المنافسة تبني المرجعية الفكرية الواضحةوتغيير السلوك السياسي من محاولة الإقصاء للإسلام السياسي إلى ضرورة تقبله والتعايش معه كواقع راسخ لا يمكن إلغاؤه من الحياة السياسية.


الشيخ علي أبو زيد
مصراتة – ليبيا

Exit mobile version