الجماعات الإسلامية في ليبيا… تهديد للخصوصية والهوية

تشكل المحاولات المستمرة لنشر وتوطين أفكار الجماعات الإسلامية في ليبيا تهديدا خطيرا لخصوصيتها وهويتها الثقافية وخاصة بعد سقوط النظام السابق وفي ظل الفوضى السياسية الحالية. لقد أصبحت فرص التجنيد لهذه الجماعات متاحة وظلت سبل الإستقطاب  مكثفة وعلنية عبر مختلف الوسائل الإعلامية وغيرها.

تعتبر الوهابية السعودية والتي تعرف نفسها بالسلفية الحركة الأم ومنبع فكرة “الجماعة” ورائدة التحالف المصلحي بين الدين والسياسة الذي أصبح منهجا عمليا تطبقه الكثير من الحركات والجماعات الإسلامية  إبتداءا من جماعة الإخوان وانتهاءا بداعش وعشرات الجماعات المتناثرة في ليبيا والعراق وسوريا وغيرها من الدول والبقية تأتي. لقد صُدم العالم العربي والإسلامي بل العالم كله بعنجهية وبربرية وتخلف الجماعات الإسلامية بشكل عام  في فرض أفكارها وتصفية خصومها من المسلمين وغيرهم واعترفوا بصعوبة القضاء عليها والتخلص منها نهائيا وأقرب الأمثلة هي حركة طالبان.

على المستوى المحلي هناك مخاوف حقيقية في ليبيا من تبعات توطين هذه الجماعات وتفشي أفكارها المتطرفة ومخاطر تبني شرائع طالبان وجر البلاد إلى مزيد من الإنقسامات والحروب البعيدة المدى حيث  أصبحت مناطق واسعة من البلاد مرتعا لجماعات مدعومة بالمال والسلاح من قوى عالمية وإقليمية لنشر الفوضى والسيطرة على ثروات البلاد. الجانب الآخر لمخاطر هذه الجماعات يكمن في منشئها وتبعيتها، فجميها تتبع دولا أخرى كالسعودية بالنسبة للوهابية (السلفية) ومصر بالنسبة للإخوان ثم أخيرا تونس فيما يتعلق بأنصار الشريعة.

تُعتبر الجماعات الدينية دخيلة على الإسلام ودخيلة على ليبيا، فهي تدعي بأنها الممثل الشرعي للدين الحق أو أنها تعمل لبسط شرع الله أو إقامة الدولة الإسلامية العظمى ولكن وفق مبادئ الجماعة ومدرستها الفقهية والسياسية وأفكارها الإنتقائية الضيقة الغير قابلة للإنتقاد أو التعديل والتي تهدف في النهاية لتحقيق التبعية العمياء والعبودية الفكرية. ساهمت هذه الجماعات بمختلف مسمياتها في خلط الأوراق السياسية والدينية في ليبيا وأنتجت تحالفات مصلحية ومشبوهة داخل البلاد وخارجها. بل هي متناحرة فيما بينها وتساهم في الفرقة وتشتيت أصوات المسلمين بصورة عامة. لا يتردد شيوخ وزعماء هذه الجماعات في تصنيف وتكفير معارضيهم أو نعتهم بمختلف الألقاب وتسخير أتباعهم لشيطنة الآخرين والإعتداء عليهم أوالقيام بأبشع الجرائم بإسم الدين أو لإثارة القلاقل في السر أو العلن بدون مراعاة لقوانين الدولة والأعراف الإجتماعية كما تفعل هذه الجماعات الآن في ليبيا وغيرها من الدول. كانت ولازالت هذه الحركات الإسلامية السبب الرئيسي في تراجع المنهج الإسلامي الوسطي الذي عهدناه في ليبيا وبعض الدول الإسلامية الأخرى وكانت أيضا نموذجا فكريا ومنهجيا تأثرت به جميع الحركات الجهادية والمتطرفة مثل القاعدة وداعش وغيرها.

أدت عمليات الإستقطاب ودعوات الجهاد المكثفة منذ الحرب الأفغانية ومرورا بحرب العراق و ما يسمى بالربيع العربي  وخلال السنوات الماضية إلى إنقياد الكثير من الشباب الليبي المهمش والتائه إلى هذه الجماعات بمختلف مسمياتها وتياراتها ربما رغبة منهم  في التحرر من القمع واليأس أو بحثا عن هوية وإنتماء أوحصانة من الضياع أو إستجابة لحوافز معنوية ومادية أخرى فتحول أغلبهم  إلى متطرفين وقُتل عدد منهم في دول أخرى.

من منا لا يذكر كيف إعتبر شيوخ الوهابية السلفية ودعاتها أن الجهاد في أفغانستان “فرض عين” والذي سرعان ما تغير إلى “جهاد النفس” بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتعليمات الإدارة الأمريكية للسعودية بضرورة إعادة تأهيل شيوخ المملكة. ينكر أتباع الوهابية السعودية (السلفية) حقيقة خطاب الحركة المتشدد ومبادئها المتطرفة والجهادية حيث أثار الداعية السعودي عادل الكلباني غضب الشيوخ والدعاة السعوديين وأتباعهم باعترافه في حديث تلفزيوني أن داعش نبتة سلفية، وأن فتاوى قتل الصحفيين واستباحة دماء العلماء فتاوى سلفية وليست خارجة عن السلف. (شاهد الفيديو)

يجب التأكيد على أنه ليس للشيوخ قدسية أو مكانة خاصة تجعلهم فوق بقية الخلق فهم ليسوا أولياء الله في الأرض ولا يصح الجزم بأن فئة من المسلمين تقاة وغيرهم كفرة لأن الأعمال بالنيات والله وحده أدرى بذلك لا يمكن الجزم أيضا بأن الشيوخ غير مسيسين بل شيوخ وزعماء هذه الجماعات الدينية على إختلاف أشكالها والوانها يخلطون الدين بالسياسة ويتبعون أنظمة معينة تروق لهم حتى وإن أنكروا ذلك.

لا أحد ينكر تبعية الإخوان الفعلية والمعنوية للمرشد الذي يجلس على رأس الهرم التنظيمي للحركة ولا أحد ينكر تبادل الأدوار بين الإخوان في ليبيا والإخوان في مسقط رأس الحركة مصر وتبني قطر وتركيا دعم الجماعة سياسيا وإعلاميا. بالمثل تظل تبعية الوهابية (السلفية) لدولة آل سعود وشيوخها حيث مسقط رأس الحركة ومصدر دعمها المادي والمعنوي والإعلامي. تبعية هذه الحركات للدول المصدرة يكفلها الولاء والتمسك بالمدرسة الفقهية والمبادئ السياسية للحركة والدولة الحاضنة.

بينما إنكشفت في ليبيا حقيقة الإخوان والجماعات الأخرى مثل أنصار الشريعة وتصدى الشعب والجيش لداعش وأخواتها، تظل الوهابية (السلفية) تعمل باجتهاد على فرض خطابها المتشدد بطرق إستفزازية معتمدة على تكتيكات مماثلة لضمان حمايتها وعدم التعرض لها كدخولها في تحالفات “مؤقتة” مع الجيش في شرق البلاد وتحالفات مشبوهة أخرى في غربها والتأكيد على أنها حمل وديع يحرص على طاعة الراعي مهما كلف الأمر. هيمنة بعض أتباع الوهابية السلفية على ما يسمى بهيئة الأوقاف يعد أمرا خطيرا ويجب علاجه على وجه السرعة، كذلك وجود بعض القادة “السلفيين” في أجهزة أمن الدولة والشرطة وجيشها يعد خرقا للقواعد الأمنية والإستراتجية للدولة.

ما قام به بعض شيوخ وأتباع الوهابية (السلفية) وقادتها مؤخرا في ليبيا من تهجم على بعض المحافل وتهديد منظميها وأساتذة الجامعة ووصفهم “بالأراذل” يدعو لمزيد من القلق ويحذرنا من بداية مرحلة تعسفية ودكتاتورية جديدة بإسم الدين. مثل هذه الأفعال تذكرنا بما كان يقوم به أنصار الشريعة في بداية ظهورهم على الساحة الليبية عندما كانوا ينظفون الشوارع ويجمعون ويوزعون التبرعات والأضاحي ويحمون بعض الأماكن العامة وفي نفس الوقت كانوا يستقطبون الأتباع من الداخل والخارج ويكدسون الأسلحة والعتاد ويخططون لفرض “شرع الله” بطريقتهم على الشعب الليبي الذي عرف الإسلام قبل أن تظهر هذه الجماعات على وجه الأرض.


بقلم:عبدالحميد محمد

كاتب ليبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى