Site icon اهل البيت في ليبيا

ليبيا والحاجة لحركة تحرر الوطني.. إرادة المقاومة الواعية

تمر الشعوب بمراحل تاريخية حاسمة ومريرة يتهدد فيها وجودها وسلمها الأهلي ومواردها وسيادتها، بل ويتم استعمارها ورفع أعلام الدول الأخرى في مدنها، وتتحكم فيها قوى أجنبية وخارجية عبر أدواتها وأذرعها، وتمارس عليها القتل والتدمير والاحتلال المباشر او المقنّع، لكن إرادة الشعوب حية مهما تصور البعض إن الأوطان قد تخضع أو يتم كسر إرادتها، فما هو سبيل الإنقاذ والتحرر والنهوض، وما هي معوقاته، وكيف يمكن لقوى النهب الدولي وأدواتها الإقليمية أن تحقق أهدافها بمنع قيام “حركة تحرر وطني” – ليس فقط بقوتها وقدرتها – بل أيضا باستغلالها الواقع المحلي ليصبح سلاحها الذي يخدمها بديناميكيته، دعونا نرى.

واجهت أمتنا وشعوبنا مراحل أصعب مما نمر به اليوم، حيث كانت قد اجتاحتنا قوى الاستعمار على امتداد خارطة الأُمة وجغرافيتها، مستفيدة من تقدمها العلمي والتقني بعد ثورة البخار والسيطرة على البحار، وظهور البارود وصناعة الحديد والنقل، فرفعت أعلامهم على مدننا ونصبوا لنا المشانق في قرانا ومدننا، وقسمونا بينهم، نهبوا خيراتنا، مارسوا علينا صنوف الإبادة الجماعية، قتلوا الأطفال النساء الشيوخ، ويعرف كل شبر في أرضنا مذبحة، مارستها آلة القتل الأوروبية على الإنسان طوال ما يقارب من 100 سنة من الاحتلال والاستعمار، بل وجعلونا جنودا في حروبهم البينية في الحرب العالمية الأولى والثانية، وحملوا أبنائنا إلى أصقاع الأرض ليقاتلوا بهم ويفتحوا بهم بلدانا أخرى، و نفونا إلى كل أصقاع الأرض حتى كاليدونيا الجديدة التي حملوا لها رجال الجزائر الأفذاذ نفياُ، ونفوا الليبيين للجزر البعيدة لتجفيف مناطق المقاومة، ونفوا قادتنا الوطنيين إلى الأصقاع البعيدة.

لكننا قاومنا بالإرادة التي لم تكسر فينا، قاومناهم بما لدينا بالدم واللحم والذراع والساعد ، إرادة مقاومة شعبية عظيمة مستندة على شعور وطني عارم موحد ضد الاستعمار المباشر، حتى طردناهم وأجليناهم في بلدان عربية على مراحل، وأخرى دفعة واحدة، وأعلنا استقلالنا الوطني، وأنشدنا أغاني الإجلاء والتحرر والاستقلال، وأممنا نفطنا وأراضينا التي كانوا يسيطرون عليها، وأعلنا السيادة الوطنية على أرضنا، بل وأجبرنا البعض منهم على الاعتذار علناً وتقبيل أيادي أبناء مجاهدينا على الملأ.

اليوم نمر بمرحلة أخرى من مراحل تاريخنا الحافل بالمواجهة والمقاومة، فقد استباحتنا اللعبة الدولية عبر قدرتها على شن “حروب الجيل الرابع وجيوش العصر الحديث” بالاستفادة من أخطائنا، حتى تبختر في مدننا “قادة دول النهب” فرحين بتدمير مدننا وقرانا وبسقوط عواصمنا، ورفع السذج والجواسيس والعملاء على مبانينا أعلام الدول الأخرى وصلوا تحتها صلاتهم الموهومة، ونُهبت أرصدتنا واستبيحت سماواتنا وأراضينا بالقوات، وعربدت القاذفات في سمائنا تصب الحمم على رؤوس أهلنا و أرضنا تحت مسوغات قرارات دولية هم يملكونها ويصنعون مبرراتها، واجتمعت دول النهب الدولي على “قصعتنا” وتكأكأت الدول النهمة بما فيهم الأشقاء والإخوة والجيران (يالا غرابة الزمان)، وافتقدنا الأمن الاجتماعي، والسلم الأهلي، وأُهين الإنسان الليبي في ماله وعرضه وداره، وانتشرت الجريمة والجماعات المنظمة الإرهابية، والمنظمات الإرهابية الدولية العابرة للحدود، والممولة من المخابرات الدولية وتحالفاتها، وتقسمت أجزاء وطننا بين سيطرة جماعات الإرهاب، وسطوة المليشيات، وسيطرت أدوات الدول الأجنبية على قرارنا ومفاصل مجتمعنا، وانتشر القتل في كل مكان، خطفاً وحرقاً، معارك على رؤوس المدنيين والأُسر الآمنة، حرق خزانات الوقود والنفط وتدميرها،  والسيطرة على مطاراتنا وموانينا، وقواعدنا العسكرية التي صارت بيد جماعات دولية لا نعرف ماذا تستقبل ولا ماذا يعبر منها، ولا من الذي يديرها فعلياً.

 نحن إذاً  في أمس الحاجة لإرادة “التحرر الوطني”  لكن تحالف “مركز المال العالمي، ومركز الفتوى والسيطرة الإعلامية الرهيبة المتمكنة” والقدرة البحثية العارفة بتفاصيل الواقع الاجتماعي، والخبرة العملية والبحثية الطويلة في معرفة واقعنا وشعوبنا، والتمكن و السيطرة على المنظمات الدولية وتسييرها بما يخدم اللعبة الدولية، والقدرة على تحريك أدوات إقليمية، بما فيها أدوات عربية ومحلية، جعل مسالة التحرر الوطني تواجه تحدي ربما غير مسبوق تاريخياً، هذا التحدي يكمن في “قدرة اللعبة الدولية على الاستفادة من النزاعات المحلية” وفسح المجال لها بدفعها وانتعاشها وتمظهرها، لمنع قيام التضامن الوطني وإعاقته، وإعاقة تبلور فكرته الوطنية، باستخدام الوظيفية السياسية، والاستفادة من سلبيات الواقع،  ليصنع تمظهر يصبح لاحقاً مانعاً – من الواقع – لظهور إرادة التحرر الوطني وتبلورها، وحجب الشعور بالحاجة لها عبر تصعيد الشعور بالاتي:

القبلية: تقوم على المعرفة العميقة بالقبلية وعصبيتها وديناميكية عملها وتحركها، والتي تعتبر الحلقة الأقوى والأكثر بقاء وفاعلية في المجتمع العربي، والتي بطبيعتها – حينما يصعد على سطحها صغار قومها وأغبيائها وجهلتها والنافخين في كير عصبيتها العمياء المغلقة سياسياُ – تدمر وتعرقل قيام الإرادة الوطنية، بفعل النعرات القبلية والأمجاد القبلية الضيقة المزعومة، حيث تحقق للعبة الدولية “انتصار القبيلة وهزيمة الوطن” وبالتالي يتم دفع بعضها للتقوقع والانزواء، وأخرى يتم النفخ بشكل مقصود في مشاعرها القبلية، عبر زيارات مسؤولين دوليين وسفراء، أو تخصيص برامج إعلامية والنفخ في ذات القبيلة وتضخيمها وتضخيم ذاتها ، ومنحها فرصة التمظهر بما فيه السلبي والتقوقع والانكفاء والعزوف عن القيام بالدور الوطني، أو إفساح مجال حيوي لها لتلعب دوراً تفرح وتتلذذ بالقيام به تحت وقع العصبية الضيقة الغبية، وتصبح لاحقا – سوى بالفعل او بالتقوقع – عقبة حقيقية مانعة من الواقع لتحقيق للارادة الوطنية، بحكم تفضيلها للمغانم القبلية وتصورها مجد وإيجابية على حساب الوطن.

المناطقية: وتقوم علىى فكرة تميز جغرافيا معينة داخل الوطن، وصناعة عمق إجتماعي لها، ووضعها على سكة المفاخرة والتمجيد، وصناعة قادة مناطقيين، وتمظهر سياسي وقتالي ، وتعمل بديناميكية طبيعتها بممارسة “الجميل” على الفعل الوطني، ويصبح “المجد المناطقي” سيف مسلط على رقبة الوطن، وهكذا تصنع عبر مراحل شعور زائف بالتميز المناطقي (  superiority ) يتعالى على مناطق الوطن الأخرى،  ووصفها بأوصاف التقليل والتحقير، وتصنع ديناميكية المناطقية – عبر اللاوعي – شعور زائف بالفخر والتلذذ، مما تصبح معه الإرادة الوطنية مكسرة ومرتهنة ومجزئة وعليلة.

الشعوبية ووهم التميز العرقي: وتقوم على النفخ في قبائل معينة (قومنة القبائل) عبر برامج ضخمة متخصصة، وصناعة تصور بتميز عرقي خاص بهذه القبائل ونشر مصطلح “مكونات” واعتماده بغباء مفرط في تناول الشأن الوطني دون “أدنى معرفة أو دراية باستخدام هذه المصطلحات الرنانة المفخخة”، ومع مرور الزمن يصعد شعور زائف بالانقسام الاجتماعي، ووهم الانعزال الثقافي والهوية عن بقية المجتمع والاختلاف عنه، وتصعد ديناميكية هذه المشاعر، وتعمل على صناعة تشرنق داخلي، وتصنع دفاع ذاتي وكأن بقية المجتمع أعداء يتربصون بها كل صباح، وهي تحتاج للحماية والانتباه، والتشرنق، وطلب الرعاية الدولية المزعومة، وبالتالي يصبح هذا الشعور مقدما على إرادة التحرر الوطني، فتحقيق الذات لا يصبح وطنياً، يعبر عنه في السيادة الوطنية، ووحدة الوطن، بل يصبح التميز والتقوقع والانعزال هو أساس الدور، ومحركه وهاجسه وشغله الشاغل.

وهكذا يصبح انتصار “القبيلة او المنطقة او وهم العرق المزعوم الغبي ضيق الأُفق , والشعوبيين بأنواعهم وجماعاتهم” مقدماً على انتصار وتحرر الوطن بتكسير وحدته ووحدة إرادته، حيث يصعد ويظهر “قادة قبليون، وقادة مناطقيون، وقادة أوهام التميز العرقي”، ويتم منحهم قصداً مجالا سياسيا وإعلاميا أكبر، عبر برامج متحكم فيها تسمى “حوارات ولقاءات ووفاق هو في الحقيقة ليس إلا توليفة من القبلية والمناطقية ووهم التميز العنصري والعرقي المزعوم يتم تلبيسه على رأس إرادة الوطن وتزييفها”، والتي جميعها تعتبر أداة اللعبة الدولية في منع قيام إرادة تحرر وطني ونهوض الأوطان، عبر تغطية دولية وتدخل الدول الأُخرى، وسفرائها ومنظماتها وأذرعها وتلفزيوناتها وصحفها ومراكز بحثها …..الخ،  وهكذا تصنع كل صباح “أزمة مناطقية او قبلية أو توهيم عنصري”، وينشأ سلاح مجاني من الواقع يقاوم “إرادة التحرر الوطني”  – بفعل ديناميكيته – كورم يصنع مجاله، وطرق تغذيته، وانتشاره على حساب الجسم الوطني، الذي يصبح يعاني من أمراضه الداخلية، في نفس الوقت الذي يواجه فيه الهجوم الخارجي الذي يستفيد مما يحصل داخلياً، ويحقق ما يريد وكيفما يريد.

تلكم هي في الحقيقة “معوقات إرادة التحرر الوطني في ليبيا” التي يصنعها علم الوظيفة السياسية لتحقيق مأرب الذين يديرون اللعبة..

 إن الوعي بالواقع وقوة الإرادة والعمل أمر حيوي لإنقاذ الأوطان، فالوطن يحتاج أبناءه الذين يعون الحقائق والوقائع وطرق عملها وآليات حركتها…

 إن إنقاذ الأوطان لن يتم عبر “وباء العواصم”، والموائد الملتئمة كل شهر في عاصمة، فالإرادة الوطنية يصنعها رجال الوطن الذين لا يمتهنون المدح والقدح “القبلي أو المناطقي أو العرقي الموهوم والمزعوم”…

 إن قيمة الوطن في وحدته الاجتماعية والسياسية، وهو الذي يعطي القيمة للأشياء، وبه تصعد إرادة الوجود في عالم لا يعرف الرحمة، وهو التعريف الحقيقي للانتصار، فالنصر الحقيقي ليس نصرا قبليا ولا مناطقيا ولا عنصريا مزعوما وموهوما، وهو أيضا ليس مرهوناً بشخص معين وزمن معين..

  إن رجال الأوطان هم الذين يعرفون طرق العمل وأساليبه، وهو المأمول من القوة الوطنية المدعوة اليوم لتنتزع المبادرة وطنياً وتبلور “إرادة التحرر الوطني”، فالوطن يحتاج وينتظر وتاريخه أيضا يسجل كل التفاصيل، كل التفاصيل..

والله من وراء القصد

 —————————————————————————–
بقلم: محمد غرس الله
كاتب ليبي
 
 
Exit mobile version