Site icon اهل البيت في ليبيا

كارنغي: العقيدة ليس دافعاً وحيداً للهجمات السلفية ضد التصوف في ليبيا

أهل البيت في ليبيا

ما تتعرض له المقامات والزوايا الصوفية في ليبيا، منذ العام 2011، يعتبر أمراً غير مسبوقاً في تاريخ ليبيا البلد الذي يتعامل أهله بالكثير من الإجلال مع التصوف والأولياء الصالحين تاريخياً كانت الصوفية في طليعة القوى الحية للشعب في مواجهة الاحتلال الإيطالي. عمر المختار كان أبرز علامة ذلك، وغيره كثيرون من مريدي الطرق الصوفية على اختلاف فروعها، دفعوا بأرواحهم في قلب المعركة ضد الإستعمار.

وخلال العهود السابقة، سواء في العهد الملكي أو الجماهيري كانت الدولة دائماً تنظر بعين الاحترام لهذا الإرث الثقافي والحضاري، والذي يمثل أحد أهم روابط الوطنية الليبية بعد القبائل. في مقالة عميقة نشرها مركز كارنغي لدراسات الشرق الأوسط في 23 كانون الثاني/يناير 2018، للباحثان فريدريك ويري وكاثرين بولوك، تسلط الضوء على الصراع السلفي الصوفي في ليبيا، وبواعثه السياسية والدينية والاجتماعية. يرى الباحثان، أن الهجمات الأخيرة في ليبيا ضد أهداف صوفية تمّت بدافع عقيدي، إنما أيضاً بسبب الاستياء الاجتماعي-الاقتصادي.

تقول المقالة إن هذه الهجمات سلطت الأضواء على القوة المتنامية للسلفيين في البلاد، هذا عدا عن إبرازها مدى الفوضى المتواصلة وعجز-وأحياناً عدم استعداد-السلطات الحكومية لحماية المقامات الصوفية. فعلى رغم أن العداوة التي يكّنها السلفيون للصوفيين توضع في إطار عقيدي وفقهي محض، إلا أن هناك غالباً دوافع سياسية واجتماعية-اقتصادية أعمق.

بعد 2011، حدث تغيرات جذرية في المشهد الليبي فالسلفيين الهادئين، الذين يسخر منهم خصومهم بإطلاق تسمية “المدخليين” عليهم بسبب ارتباطهم برجل دين مقيم في السعودية يُدعى ربيع بن هادي المدخلي، تجنبوا نظرياً العمل السياسي مفضلين عليه الأخلاق الاجتماعية، إلا أن هذا تغيّر في السنوات الأخيرة. فقد تحالف السلفيون مع المعسكرات السياسية اللبيبة المُفتتة، والأهم أنهم سيطروا على القطاع الأمني من خلال الميليشيات التي تتحالف شكلياً مع السلطات الليبية المتنافسة في الغرب والشرق. وهنا حظي السلفيون ببعض التصفيق بسبب تصديهم للاتجار بالمخدرات، لكنهم أثاروا في الوقت نفسه القلق والتوتر بسبب قمعهم لنشاطات يعبرونها لا إسلامية، كالفن والموسيقى والاختلاط بين الجنسين. كما أنهم استخدموا سردية مكافحة الجريمة والإرهاب لاستهداف منافسين إسلاميين، سواء أكانوا سلفيين جهاديين من تنظيم الدولة الإسلامية أو ناشطين سياسيين من جماعة الإخوان المسلمين. كما وفّرت لهم سلطتهم المُستجدّة الغطاء لشن الحملات على الصوفيين.

أوضح مثال على ذلك ميليشيا في طرابلس تُدعى قوة الردع الخاصة، التي لا تتكوّن كلياً من السلفيين لكنها بقيادة عبد الرؤوف كارة الذي يصف نفسه بأنه سلفي. تُنحى اللائمة على هذه الميلشيا للهجمات على السلفيين في العاصمة، بيد أن كارة نفى لأحد واضعي هذه المقالة في مقابلة العام 2013 أنه أمر بتنفيذ هذه الهجمات، على رغم أنه اعترف بأن رجاله شاركوا فيها. ما هو أهم هنا أنه لا هو ولا قوات الشرطة الرسمية في العاصمة أبدوا استعداداً أو قدرة على حماية المواقع الصوفية. وفي شرق ليبيا، ثمة ديناميكية مماثلة قيد العمل، لكن هذه المرة عبر موجة اعتداءات على الصوفيين من قبل ميليشيات سلفية متحالفة مع الإدارة العسكرية بقيادة المشير خليفة حفتر.

كل هذا يعكس ما يمكن وصفه بشكل أفضل بأنه “سلفنة” (من سلفية) قطاع الأمن الليبي، حيث تُهيمن قواعد العمل السلفية على مسألة الأمن. والحصيلة كانت تفاقم مناخات الخوف والانكشاف على المخاطر، مشوبة بالتحدي في صفوف الصوفيين. وقد كشفت زيارات للصوفيين في كانون الأول/ديسمبر 2017 في طرابلس ومصراته وسرت عن نزعة التحدي هذه بأبهى صورها، حيث يقوم الصوفيون بالتصدي لسيطرة السلفيين على الفضاء العام من خلال المواكب وعروض “الحضرة” الصاخبة، وهي احتفالات تتضمن التلاوات والموسيقى في الساحات العامة.

ومع ذلك، لايزال السؤال معلّقاً في الهواء: ما الدوافع وراء الاعتداءات على الصوفيين؟

من جهة، هناك بالفعل صدع عقيدي مُتجذّر بين السلفيين والصوفيين حول الإيمان والشعائر وقواعد السلوك. ويعتبر السلفيون الصوفية بدعة هرطوقية وإساءة إلى المبدأ المقدس الخاص بوحدانية الله، وفق مفهومهم للإسلام وما يعتقدون أنه سنّة النبي محمد وصحابته. ويسخر السلفيون من ممارسات الصوفيين في مجالات الغناء الابتهالي، وقرع الطبول، والتوسّل للأولياء الأموات، ويعتبرون كل ذلك شركا. كما أنهم يدينون تنظيم الصوفية في طرق ويعتبرون ذلك تقسيماً للأمة الإسلامية.

في مقابلة معه أُجريت في كانون الأول/ديسمبر 2017 قدّم أحد الأعضاء السلفيين في “الكتيبة 604 مشاة”، وهي الميليشيا التي تحوّلت إلى قوّات شرطة في سرت، نقداً سلفياً نموذجياً إلى حد ما للصوفية. قال: “إنهم يمنحون مشايخهم سلطة الله، ويمارسون السحر الأسود” لكنه أشار أيضاً إلى بعد سياسي للتنافس، مُدعيّاً أنه لطالما نُظر إلى الصوفيين باعتبارهم “الطابور الخامس” للقذافي، ومُشيراً في الوقت نفسه بسخرية إلى أن السلفيين “الهادئين” كانوا أنفسهم حلفاء الديكتاتور الراحل، حيث كان الكثيرون قابعين على الهامش في ثورة 2011 أو بقوا موالين للنظام وبالتالي، في حين أن هناك اختلافات إيديولوجية بالفعل، لا تزال السياسة والعلاقة مع مسألة السلطة المركزية تلعب دوراً مهماً ويمكن اعتبار الهجمات التي طالت الصوفيين، جزءاً من إعادة تشكيل أوسع نطاقاً للمجال السلفي الليبي، حيث تُستخدم الهجمات على “الآخر” الديني لتحديد الهوية وجذب الأتباع.

ازداد السخط الاجتماعي والاقتصادي المتبادل بين الصوفيين والسلفيين، ربما جزئياً بسبب الطريقة التي كان يتعامل بها الحكام الليبيون مع الصوفيين إما كأكباش محرقة أو كرموز وقد كسبت السلفية زخماً في أوساط الجيل الأول من المهاجرين الريفيين إلى المناطق الحضرية (شهدت ليبيا انتقالاً سريعاً نحو التحضُّر في العقود الأولى من حكم القذافي)، الذين يفتقرون إلى إمكانية الوصول إلى شبكات المحسوبية التقليدية. وفي المقابل، كانت الصوفية في كثير من الأحيان قصراً على الأسر الحضرية وشبه الحضرية الراسخة التي تملك وقفيات ثرية. تُجسّد انتقادات الصوفيين للمذهب السلفي هذا الشرخ الطبقي والجيلي: فغالباً ما اتّهم الصوفيون السلفيين بأنهم يفتقرون إلى التعليم الإسلامي الرسمي وبأنهم من الدخلاء الجدد على الإيمان. وكما قال أحد الشيوخ الصوفيين في طرابلس، في مقابلة أُجريت معه في كانون الأول/ديسمبر 2017، في إشارة إلى مجتمع ساحلي مجاور من السلفيين، “كنّا نعلم أن هؤلاء الرجال مجرد صيادين بسطاء يحتسون الكحول، وفجأةً باتوا مدخليين”.

في نهاية المطاف، الهجمات السلفية على المواقع الصوفية لا تعبّر وحسب عن اشتباك إيديولوجي، بل هي أيضاً أحد أعراض التوترات المجتمعية طويلة الأمد والناشئة بسبب الفوارق الاقتصادية في ليبيا، والتي تفاقمت بسبب الصراع السياسي المتواصل، فضلاً عن الأزمة النقدية في البلاد. وبالتالي، فإن حل معاداة الصوفية لا يتعلّق أساساً بمصالحة عقيدتين، أو إضفاء نوع من الاعتدال على السلفية، أو مدّ جسور الحوار بين الطائفتين؛ إذ على الرغم من أن هذه المبادرات قد تكون قيّمة، إلا أن الأمر سيتطلّب معالجة أوجه العجز الأوسع التي تعانيه ليبيا منذ وقت طويل، وتتمثّل في إصلاح الاقتصاد، وتطوير مؤسسات شاملة، ولاسيما إرساء سيادة القانون. وفي حين أن الضرورة الأخيرة لطالما كانت مهمة، إلا أنها باتت الآن تتمتّع بأهمية أكبر، نظراً إلى هيمنة السلفيين على قطاع الأمن، والهجمات على الصوفيين.


مركز كارنيغي للشرق الأوسط للدراسات

Exit mobile version