Site icon اهل البيت في ليبيا

بعد هدم ضريح الصحابي المنذر الإفريقي في طرابلس قل على ليبيا السلام

أهل البيت في ليبيا

 قال الله تعالى في كتابة العزيز:{ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فاعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا،وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم مَوْعِدٌ لن يجدوا من دونه موئلا } (1) الكهف : 56-57.

أكتب هذا المقال وقلبي يحترق على تراث بلادي وتاريخها،وينتابني شعور بأن أولادنا الذين اعتنقوا أفكاراً غريبة عن بيئتنا وما جبل عليه شعب ليبيا من إيمان ومحبة لله ولرسوله ولصحابته وأوليائه والصالحين من أمته،وهم يعتقدون أنهم على حق وغيرهم على باطل، وينفذون تعاليم تأتيهم من شيوخهم تتعارض مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

لقد بدأ مسلسل هدم الأضرحة وتفجير القبور منذ ثلاث سنوات،أي بعد ثورة 17 فبراير عندما نجح الشعب في ثورته ضد الرأي الواحد والفكر الواحد وتسلط فئة على البلاد،فعاثت فيها فسادا فصب عليهم ربك الإبعاد وقضى عليهم بتغيير البلاد،وكان الأمل من الشعب الليبي أن يعيش حياة هانئة مطمئنة يسود فيها الأمن والسلام.

شمل الهدم والنبش أضرحة أعلام هم تاريخ ليبيا ووجهها الإسلامي المضيء،فقد تم نبش قبر الشيخ أحمد زروق رحمه الله،محتسب الفقهاء وفقيه المتصوفة،وقبر الشيخ عبد السلام الأسمر رحمه الله،وطال أحد علماء ليبيا الكبار ، وهو الشيخ أبو الحسن علي بن محمد المنمر ( 348 – 389هـ ) في غنيمة،وتاريخ هذا العلم يجهله من قام بتفجير ضريحه،كما شمل نبش قبر العالم الجليل الشيخ محمد بن محمد بن مقيل،مفتي طرابلس خلال القرن الحادي عشر (ت 1101هـ ) وقد قامت دار الإفتاء مشكورة بنشر فتاواه مؤخرا، تم هدم مسجد الشعاب المشيد من القرن الثالث الهجري،وإلى الآن لا يزال حطاما،وكذلك ضريح الشيخ حامد الحضيري في سبها مع قتل اثنين من أحفاده، وكذلك الصحابي الجليل أبو سجفيف الأنصاري في مصراتة.

والله أعلم بقبور الصحابة في درنة التي تميزت بأضرحة أكثر من سبعين صحابيا رضوان الله عليهم،حتى أطلق عليها مدينة الصحابة . كما طال التفجير ضريح مراد آغا القائد المسلم الذي أسهم مع سكان ليبيا في تحرير ليبيا من قبضة فرسان القديس يوحنا المسيحيين الذي استولوا عليها بتاريخ 1530م من الأسبان،وتم تحريرها منهم سنة 1551م ،فكافأه الشعب الليبي عن طريق هؤلاء المخربين بهدمه بعد ما يقارب من خمسة قرون مضت على وفاته رحمه الله.

وأخيراً تم تفجير ضريح الصحابي الجليل المنذر الإفريقي الذي كان علما لمدينة طرابلس الغرب ودليلا على دخولها في دين الله منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،راوي الحديث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:{ من قال رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، فأنا الزعيم له فلآخذن بيده فلأدخلنه الجنة } كتاب الاستيعاب لابن عبد البر،ترجمة رقم 1581 ، ص 708-709.

وماذا أقول لأبنائنا الذين يقومون بهذا العمل،إن كانوا من أبناء ليبيا أو غيرهم الذين يدعون الإسلام،ويعتقدون أنهم يحسنون صنعا بالدفاع عن العقيدة بهذا الهدم والتفجير ونبش القبور.

أقول لهم:

نحن لا نحكم على الحق بالرجال ولكن نحكم على الرجال بالحق،فأنتم تتبعون تعاليم شيوخ هم دون شك من غير علماء هذه البلاد،وإن كانوا من علمائها فهو يتبعون الرجال الذين نعرفهم جميعا،ولكنا نحتكم إلى المصدر الأول للدين الإسلامي،وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والمصدر الثاني وهو السنة النبوية الشريفة المحجة البيضاء،ولكن لا نلجأ إلى أقوال الرجال ونحكمها على ما ورد في هذين المصدرين،وإن كان لنا الاستدلال بأقوال العلماء والفقهاء فليس بفهم مدرسة فقهية معينة محددة وإنما كافة المدارس الإسلامية المعروفة لكافة المسلمين.

إن من يعتقد أنه يقوم بالهدم والتفجير ونبش قبور الصحابة والعلماء والصالحين إنما يؤدي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،فهو غير صحيح لأنه نسي قوله تعالى { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن،إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) النحل : 125،فالله تعالى اختص بالعلم بالمهتدين والمضلين، ومن يدعي خلاف ذلك فهو غير مصدق بكتاب الله،ومن يدعي أنه وحده يعلم بذلك فقد ضل،وقد روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:{ كسر عظام الميت ككسره حيا } أخرجه الإمام أحمد في المسند،( المصنف لعبد الرزاق ص 281/3 ) كما رواه الإمام ابن ماجة عن عائشة وعن أم سلمة،حديث رقم 1616 و 1617 ص 516 /1.

فهذه الأقوال دالة على أن ما يقومون به من هدم الأضرحة وتفجيرها ونبش القبور إنما يخالف أحكام الدين الإسلامي،وما تطبيقهم لتعاليم شيوخهم إنما هو من الحكم على الحق بالرجال،فعليهم أن يعودوا للحق. وإما استدلالهم بحديث يرويه أبو الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ،( رواه الإمام مسلم والترمذي وابن أبي شيبة ) فهذا الحديث لا يجيز نبش القبر وإنما تسويته،وفي تفسير القبر المشرف خلاف بين الفقهاء،ومن ناحية أخرى فهو خبر آحاد وليس متواترا، وللعلماء الأجلاء آراء في أخذهم بخبر الآحاد، فالإمام الشافعي يأخذ به إذا تأكد له صحته،أما الأحناف فيعرضونه على كتاب الله،فما وافق الكتاب أخذوا به وما خالفه فلا يقيمون عليه حكما ( عملا بالحديث الآتي بيانه ) وأما الإمام مالك فإن عمل أهل المدينة يقدمه على خبر الآحاد ( ولمن أراد تفصيل ذلك فليطلع على كتاب تاريخ التشريع الإسلامي للخضري بك ) ص 153 – 160.

استند أبو حنيفة وأهل العراق في القول السابق إلى حديث مرفوع ونصه ،حَدَّثَنَا ابنُ أَبِي كَرِيمَةَ , عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ: ”أَنَّهُ دَعَا الْيَهُودَ فَسَأَلَهُمْ،فَحَدَّثُوهُ حَتَّى كَذَبُوا عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: ”إِنَّ الْحَدِيثَ سَيَفْشُو عَنِّي،فَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَهُوَ عَنِّي،وَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ عَنِّي ”.

إلا أن عدة فقهاء قالوا بتعارضه مع كتاب الله تعالى،وقد قال ابن حزم : إلا أن معناه صحيح ؛ لأنه عليه السلام أخبر في هذا الخبر، أنّه لم يقل شيئاً من عند نفسه بغير وحي من الله تعالى به إليه،وأحال بذلك على قول الله تعالى في كتابه: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى۱ فنصّ كتاب الله تعالى يقضي بأنّ كلّ ما قاله (عليه السلام) فهو عن الله تعالى» 2 .

أقول:وظاهر كلامه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لم يشرّع عن طريق السنّة أحكاماً مخالفة لما ثبت تشريعه في القرآن الكريم ( الأحكام : 213/2) إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما دخلوا إلى بلادنا ليبيا سنة 23هـ، أبقوا على المدن الرومانية الثمانية الموجودة حتى الآن في ليبيا ولم يحطموا تمثالا ولا هدموا معابد ولا مسارح ولا حمامات،بل أبقوها على ما هي عليه شاهدة على علو عقلهم وسمو تفكيرهم،وسماحة الإسلام الذي يحملون مبادئه السامية،وأخلاقه العظيمة،فهم يمثلون أمة الإسلام التي تبني البلاد وتبث روح التسامح والتوادد،اقتداء بالرسول الكريم الذي وصفه الله بقوله: { وإنك لعلى خلق عظيم } فلو أن المسلمين الأوائل كانوا بهذه العقلية التي تفجر أضرحة الصحابة والعلماء والصلحاء لما انتشر الإسلام في كافة بقاع الدنيا، ولم أصحبت دولة الإسلام قديما من غانة إلى فرغانه ، وحديثا انتشرت في كافة القارات ، فهل من مفكر في الأمر والمتدبر لما يقوم به.

إن الأضرحة والقباب التي هدموها،وقبور الصحابة والعلماء والصالحين التي نبشت،هي دليل على أن هذه البلاد مسلمة،ومجاهدة، وثغر من الثغور الإسلامية التي حافظت على هذا الدين،والدور الجهادي الذي قامت به في نشر الإسلام،فأغلب الأضرحة الواقعة على شواطئ ليبيا هي لمرابطين مجاهدين،وكتب التاريخ الليبي مليئة بأسماء صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،الذي قبروا في ليبيا،وكذلك العلماء والصالحين،فمستقبلا من يذكر الأجيال القادمة بهؤلاء الذين نبشت قبورهم وهدمت معالمهم،للقضاء على الذاكرة التاريخية والآثار الإسلامية التي تعتقدون أن سكان ليبيا يقدسونها ويجعلون منها أصناما وأماكن للعبادة .

إن الشعب الليبي جميعه مسلم وعقيدته والحمد لله سليمة وقد أثبتت الدراسات العلمية أن مؤلفات علماء ليبيا في المذهبين المالكي والإباضي لا حصر لها، وكلها تنهض بالعقيدة الصحيحة ” وأن خروج البلاد سليمة بدينها وكون نسبة المسلمين بين المواطنين فيها مائة في المائة على الرغم من خضوعها لفترات طويلة من الاستعمار المسيحي وحملاته التنصيرية المكثفة “وإن ما تقومون به من هدم ونبش وتخريب لا يغير من أمر عقيدة الليبيين شيئا،وربما أدى ذلك إلى ضياع هذه الآثار والتراث الإنساني،وربما أدى إلى ارتكاب جرائم قتل لا ضرورة لها،وهذه أفعال ستحاسبون عليها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وعند ذلك سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

فإذا دام هذا الحال وواصلتم هذه الأفعال التي لا يوافق عليها الأغلبية العظمى من سكان ليبيا،وهي كما سلف مسألة خلافية لا يجوز فيه تحكيم فقه معين ولا مدرسة إسلامية واحدة ، وإنما اختلف فيها العلماء، ولم يحسمها حاكم أو ولي أمر، وقيامكم بالهدم والتفجير والنبش والإزالة لرفات أموات المسلمين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلماء الأمة والصالحين من أبناء وطنكم،فإن ليبيا سيؤول أمرها إلى ما لا تحمد عقباه والله وحده يعلم ما تخبئه لها الأيام.

ونرجو الله سبحانه وتعالى ألا يؤاخذنا بما فعله بعض أبنائنا،نسأل الله لهم الهداية عوضا عن الغواية،والرحمة بدلا من القسوة،والعمل بكتاب الله تعالى بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسن والمجادلة بالتي هي أحسن.

وأختم لكم بضرورة مراجعة أنفسكم وتعالوا إلى كلمة سواء،وناقشوا الأمر مع فقهاء بلادكم فهي ليست عقيمة حتى تستوردوا لها من شيوخ بيئات أخرى ما قد لا يوافق فقههم،ولا مع ما درسناه على شيوخنا الذين نعتقد صلاحهم وتقواهم والله يعلم مستقرهم ومثواهم.  

وأخيراً

لا أجد ما أقوله لكم إلا تذكيركم بقول الله تعالى في كتابه العزيز:{ ألم يأن للذين آمنوا أن تخضع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون } الحديد : 15 ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .


د/ جمعة محمود الزريقي

الاثنين ، 28صفر1435هـ الموافق 30/12/2013

Exit mobile version