Site icon اهل البيت في ليبيا

كُنا في رمضان…مساجدنا عامرة بالإيمان لا بالزخارف والألوان

أهل البيت في ليبيا 

قديماً كنّا أميين لا نقرأ ولا نكتب،وليس من بين مقتنياتنا المنزلية كتاب أو قلم أو محبرة،لا مدرسة ولا إدارة للتفتيش التربوي ولم يكن من بين جيراننا أحداً يستطيع أن يفكّ الخط.

إمامنا لا يحمل شهادة علمية،ولا يحفظ سوى قصار السور،يتلوها علينا في صلوات الجمعة والعيدين وما نلحق معه من تراويح ،وبعضاً من الأحاديث يرويها لنا بلا راوٍ أو مصحّحٍ ولم يكن ينتقي الأحاديث التي تلائم هواه ورئيس حزبه أو جماعته.

كان إمامٌ يتكئ على عكازٍ من الجريد لا على حزبٍ أو جماعة أو طائفة أو سفارة،يعرف مأموميه بألقابهم لا بخواتمهم وعمائمهم وهيئاتهم،يصلّي لله الواحد الأحد،ومن بعد إفشائه السلام كنّا نتسابق على دعوته لمآدبنا البسيطة.

كنّا نصوم رمضان بلا بيان من هيئة أوقاف ولا مفتٍ يخرج علينا بالألوان بيده صيامنا ومواقيت إفطارنا،فلا إمساكية نلصقها على باب ثلّاجة تؤشر بألوان مميّزة موعدنا مع الأكل إفطاراً وإمساكاً،ولم نسمع بمَنْ يتجادلون حول صحّة إدراج وقت الإمساك في الإمساكية رغم أنّهم لم يختلفوا على اسمها.

كانت مساجدنا عامرة بجدرانها الطينية السميكة ونوافذها التي جُعلت للضوء وتجفيف ألواح تحفيظ القرآن،وصوامعها الصغيرة ومآذنها التي لا تعلو كثيراً،ولم يكن من بيننا مَنْ جنّدها لمآربه وأطماعه.

كانت قليلة وليس بها من بهارج اليوم ولا أنوار اليوم ولا سجّاد اليوم،لكن كان لآذانها وقع،ولعتمتها ضياء،ورغم خشونة حصائرها فإن الجلوس يطيب وتزهو نفوس المصلّون وهم ينصتون لدعاء بسيط لا يحمل فيه الإمام على جنسٍ أو دينٍ أو طائفة ولا يدعو فيه إلّا إلى الصلاح والرحمة.

كنّا أكثر إلتزاماً وصدقاً وأقوى إيماناً وأشدّ تمسّكاً وأقلّ رياءاً وبعداً عن سلوكيات المرائين وَمَنْ يمنعون الماعون،وَمَنْ يذهبون إلى بيوت الله لكي يراهم الناس،وكناً أقوم أخلاقاً،لم نقتل أو نسرق أو نقطع طريقاً أو نزرع لغماً أو نخطف أو نرقب جيراننا من خلف سواتر التراب.

وكنّا طيّبين حتى أنّنا نعتبر التدخين من الكبائر التي تجلب على صاحبها القطيعة والتحقير وإستخفاف المجالس،وكنّا نكبّر عندما نقيم الصلاة ونركع ونسجد،لا عندما نسرق ونسلب الناس ونقتل ونهدم البيوت ونحرق الأرزاق.

وعلى الرغم من توفّر سبلِ الإنحراف والإنحلال،فلم يُسجّل يوماً أثرٌ لأقدامنا أمام خمّارة أو لامس شفاهنا كأسُ طلى أو جالسنا معتّق،ولم نقضم لقمة حرام،أو احتوت جيوبناً ملّيماً جاء من منحةٍ أو عطاءٍ أو بزنس أو سيارة مصرف،ملاليمنا لم تكن تأتي بلا عرقٍ وكدّ.

كنّا أكثر خُلقاً من اليوم،وورعاً من اليوم،وإجتناباً للمعاصي من اليوم.

واليوم تعمر بيوتنا وهواتفنا وساعاتنا المصاحف،وقنواتنا بالدروس والتلاوات والمحاضرات الدينية،ومساجدنا أكثر وأقرب وأرحب وآذانها يتردّد في أذاننا بلا إسترقاقٍ،يحمل مشائخنا أعلى الدرجات العلمية ويقولون أنّهم يحفظون القرآن كلّه،ويروون الأحاديث عن عشرات الرواة،ثُلثُنا من حَمَلَةِ كتاب الله،وبإمكاننا أن نتواصل مع مسلمين آخرين في ماليزيا مثلاً وهم يؤدُّون صلاة التراويح،وآخرين يطوفون بالكعبة،وآخرين في السنغال ينصتون بإهتمام لداعية مسلم من طرابلس،وآخرين يجمعون التبرعات لبناء مركز إسلامي في زغرب عاصمة كرواتيا،اليوم إسلامنا أوسع لكنّ صدورنا أضيق وتديّننا طقوس وصلواتنا تمارين وصومنا جوع وحجّنا رياء وفنادق،وما تبقّى لنا من أخلاق لم تعد تكفي لمقارعة شهواتنا التي توحّشت،ورغائبنا التي بلا لجام، ونفاقنا الذي صنع منّا ألهة الشر.

ببساطة كانت صدورنا عامرة بالإيمان لأن علاقتنا مع الله بلا وسيط،وكان الدين سبيلاً إلى السكينة لا إلى السُلطة،ووسيلة للتقرّب إلى الله لا لتشكيل الطوائف والأحزاب،وكان إمامنا لا يطمع سوى في إعتلاء درجات المنبر لا درجات وزارة،ويمتطي دَابَّة هزيلة لا عربة مدرّعة وحرساً كثيراً،وكانت ترعاه عين الله لا بنادق مؤجّرة أو سفارة.

لهذا كنّا أمنين قنوعين ننام على رشفة ماء ونصحو على صياح الديكة لا على صياح أبناء الجيران وهم عائدون من رحلة تمشيط أو جلسة منادمة.


بقلم:مصطفى العدولي

Exit mobile version