التيَار السلفي المدخلي في ليبيا:المسار والأدوار المعقدة والمُسترابة (2 من 2)
أولا: تطوَر نشاط المداخلة في الغرب والجنوب وحضورهم في المؤسسات الإدارية والأمنية
ـ على غرار “المداخلة” في الشرق الليبي تطور تواجد التيار المدخلي في ليبيا منذ منتصف التسعينات وتطور تعامل نظام القذافي معهم وفقا لتطور وتغير أجنداته تجاههم توظيفا واختراقا، وتطور وُجودهم في الغرب والجنوب بعد سنة 2013 من حيث مساهمهتم الكبيرة في العمل الخدمي وخاصة في مدن “رقدالين”، و”الجميل” و”صرمان” و”الزاوية” و”بني وليد” و”سبها”،
وقد لعبوا أدوار مختلفة سنة 2014 وأصبحوا حاضرين بقوة، ومع بداية سنة 2015 بدأ وجودهم مثارا للاختلاف والجدل وخاصة في “طرابلس” و”مصراتة” و”سرت” وهو تماه مع الالتباس والجدل الذي جد تجاههم في أهم مدينتين في الشرق الليبي أي “بنغازي” و”البيضاء” وذلك من أواخر 2015 إلى منتصف 2016 .
ـ ارتبطت مواقف المداخلة في الغرب مثلهم مثل المداخلة في الشرق والجنوب بمواقف وتصريحات “محمد بن ربيع المدخلي” شيخهم المعروف والذي أصر على متابعة تطورات الساحة الليبية استهدافا للخصوم الفكريين والسياسيين الجدد للمملكة العربية السعودية وفقا للتطورات الإقليمية،
ففي مداخلة هاتفية على قناة البصيرة مع “محمود الرضواني” في شهر مايو 2014 يقول “نحن مسرورون بحركة “حفتر”، ونسأل الله أن ينصره بدون سفك دماء كثيرة إن شاء الله، إذا كان عند “حفتر” قُوة يفعل كما فعل السيسي، يعتقل الرؤوس الكبار ويدخلهم السجن حتى يمشي الشعب وراءه بكل راحة وهدوء بإذن الله.
وعمليا تشكل في مايو 2014 فصيل باسم “كتيبة التوحيد السلفية”، وقد دعا “المدخلي” يومها لتوحيد الجهود ضد جماعة الإخوان في ليبيا، وشنَّ حرباً ضروساً على الشيخ “الصادق الغريانى” مفتي ليبيا لمناصرته للثورة الليبية بناء على أنه محبوب بشكل كبير من عموم الشعب الليبي.، وفقا لرؤية المداخلة الليبيين وتقييماتهم وهو ما يفسر استهدافهم لاهم المقربين منه سنة 2017 والمقصود هو الشيخ نادر العمراني طبعا بل أن الجناة وضحوا التفاصيل والمرامي عند التحقيق معهم في وقت لاحق.
ـ منذ صائفة 2016، أصبح هناك قلق عميق بين حلفاء “المداخلة” في مدن الغرب الليبي وخاصة من طرف القادة الميدانيين في مصراتة وأيضا في المؤسسات التابعة لوزارة الداخلية في طرابلس وخاصة بشأن القوة المتنامية لهذا التيار وأهدافه الخفية، بل هو “اشتباه يجد أسبابه في تقارير عن تمويل من السعودية والخليج”.
ـ بعد حسم الصراع في العاصمة منذ مايو 2017، يشعر بعض القادة الأمنيين فيها كما في باقي مدن الغرب الليبي، بالقلق من منسوب الكراهية لدى المُنتسبين للمؤسسات الأمنية والمحسوبين على التيار المدخلي على غرار بعض عناصر كتيبة المشاة 604 نتاج بعض ممارساتهم تجاه بقية الوحدات الأخرى ذات الميول الإسلامية وأيضا تجاه الليبراليين وغير المتدينين وخاصة تجاه من قاتلوا معهم تنظيم داعش الإرهابي في سرت في صائقة 2016.
ـ ما يمكن التنبيه إليه أن انعدام الثقة تجاه التيار المدخلي ليس دينيا فقط، باعتبار أن جذوره تعود أيضا للصراعات القبلية المعقدة في بعض قرى ومدن ليبيا، فالكتيبة 604 مثالا لا حصرا تضم عمليا الفرجان وورفلة وهو ما فتح الصراع مع مُنتسبيها “السرتاوية”(نسبة لمدينة سرت) من أصول “مصراتية” (نسبة لمدينة مصراتة)، وهذه الكتيبة كغيرها من الكتائب الأخرى غالبية أعضائها سلفيون يغلب عليهم الانتماء للتيار المدخلي.
ـ يُمكن التأكيد أن تأثير بعض الشخصيات المعروفة بانتمائها المدخلي على غرارعبدالرؤوف كارة وغيره، في جميع أنحاء العاصمة محدود بسبب الجوار وصراع الفصائل وبسبب الاختلافات الأيديولوجية مع الجماعات الإسلامية الأخرى، ورغم مجهوداتعبدالرؤوف كارة أمنيا وحمايته للعاصمة ومدن الغرب الليبي، فان أفكاره ومواقفه تُثير الجدل ومن بينها تبرير اصطفافاته عبر تأكيده في تصريح صحفي في مارس 2016 مثلا “أن المرء ملزم وفقا للعقيدة السلفية “بطاعة ولي الأمر في أي إقليم كان فيه”.
ـ كما في الغرب فان البعض في الجنوب من أمنيين وفاعلين اجتماعيين تساورهم الشكوك حول أهداف السلفيين وخاصة المداخلة على المدى الطويل. حتى أن ناشط ليبي أكد في تدوينة له منتصف سنة 2016 “نحن معهم في الوقت الراهن في الحرب ضد الإخوان، لكنهم متطرفون ولديهم أسرار.”
ـ يجب إغفال أن زعيم المداخلة ومنظرهم الإقليمي ربيع المدخلي قد أصدر في فبراير2015 – فتوى تحريم المشاركة في صراع “الفجر– الكرامة” كجزء من تحول أوسع نطاقا في السياسة الإقليمية للمملكة العربية السعودية يومها بعد وصول الملك سلمان إلى العرش، والتي تضمنت خفض درجة تهديد الإخوان وجهودا لمصالحة المعسكرين المتنافسين في ليبيا، ويجب التأكيد أن مواقف عناصرهم تغيرت وفقا لتلك المواقف والفتاوي على غرار تغير مواقف المداخلة بعد أمر السلطات السعودية للمدخلي بعدم التصريح في الموضوع الليبي في ربيع 2017
ثم تطورت أيضا بعد أسابيع ثلاث فقط في اتجاه عكسي وهو ما مكن حفتر من استرداد سيطرته على الهلال النفطي كما تغيرت مواقفهم بعد ذلك بالتطورات في السعودية سياسياً وأمنياً وتغير مواقفها الإقليمية بعد تولي محمد بن سلمان ولاية العهد وتطورات الأزمة الخليجية.
ـ ما لم يعيه البعض من الأمنيين والعسكريين وخاصة في الغرب ان بعض الوحدات الأمنية أو العسكرية تبدو ظاهريا عادية لكنها في الواقع سلفية بل وتحديدا “مدخلية” بشكل عميق وطائفية في منظورها الفكري بل أن خطب وتصريحات المدخلي تغير فعلها على الأرض بشكل واضح وهو ما تجسده مقولاتها ورؤاها على منصاتها في شبكات التواصل الاجتماعي.
ثانيا: حول مستقبل التيار المدخلي في ليبيا وترتباته الإقليمية
ـ إن صعود ما يُسمى بالمداخلة، لا سيَّما في المؤسسات الأمنية والدينية والادارية، كان أحد نتائج الصراع المتفاقم في ليبيا والتدخل الإقليمي، وقد اضطر الفاعلون الأمنيون في “طرابلس” و”مصراتة” و”بنغازي” و”البيضاء” لتسخير قوة الجماعات السلفية المقاتلة في حملاتهم ضد الخصوم السياسيين وخاصة ضد داعش ومثيلاتها من التنظيمات الارهابية، ولكنهم يجهلون الآثار لذلك على مستقبل ليبيا وبالتالي فلابد من إعادة النظر وتقييم مسارات تواجدهم وتوظيفهم إداريا وامنيا وعسكريا ودينيا بناء على قاعدة الولاء لليبيا أولا وأخيرا.
ـ رغم الاختلاف المنهجي بين ولاءات المداخلة في الشرق والغرب من حيث التواجد ومن حيث الارتباطات وتنزيل مواقف ومقولات وأدبيات المدخلي، فان مواقفهم تطورت فعليا وفقا للمواقف السعودية من الصراعات الإقليمية، وخلال السنوات الماضية بقي بعض المتابعين والمحللين في التسلل في أكثر من مناسبة لفهم تطور الصراعات في طرابلس أو حتى في متابعة ما يجري في بعض مدن الغرب والشرق الليبيين، حيث تتغير الولاءات والتحالفات ونتائج المعارك والتي عادت ما تكون مآلاتها بناء على التدخل المستمر لدول الخليج العربي في الشؤون الأمنية في ليبيا.
ـ في العاصمة، أثبتت قوة الردع الخاصة لــ”عبد الرؤوف كارة”، أنها حصن لدعم مجلس الرئاسة خلال السنتين الماضيتين، بل أنها نجحت في القضاء على شبكات داعش داخل العاصمة، كما قضت على خلايا التنظيم الإرهابي المعروف بــ”شباب التوحيد”، وقد لعب “كارة” مثلا أدوارا كبيرة في القضاء على العصابات الاجرامية إضافة الى تصديه الكبير للإرهابيين عبر برامج التكوين والتدريب، وكل ذلك يعني أنه من المُمكن دفع عددا من المداخلة والقريبين منهم الى التحول الفعلي والايجابي الى قُوى وطنية فاعلة تستطيع تجاوز ولاءاتها الفكرية وارتباطها بمقولات كل من “الجامي” أو “المدخلي” بناء على أولوية مصلحة ليبيا وشعبها ومستقبلها.
ـ عل عكس مدن الشرق وخصوصياته فان الحضور الكمي والسياسي للمداخلة سيكون ضعيفا في الغرب الليبي نظرا لسيطرة فعلية للتيارات التالية:
- التيارات الليبرالية على غرار جمعيات أهلية قريبة من تحالف القوى الوطنية القريبة من محمود جبريل…
- التيارات الإسلامية المعتدلة القريبة من الاخوان المسلمين عبر أذرع سياسية واجتماعية بناء على تراكم فعل تاريخي تنظيمي واجتماعي.
- التيارات الوطنية والعروبية (عمليا قيادات سياسية وفكرية من أنصار القذافي وعددا من النخب الجامعية ….)
ـ حضور التيار المدخلي ضعيف كميا وسياسيا في الجنوب الليبي، لأن مُدنه وقُراه تغلب عليها عوامل القبيلة والغلبة والغنيمة، ولأنصار القذافي حُضور قوي كميا وشعبيا وقبليا، كما أن مستقبل التيار الإسلامي في الجنوب سيكون قويا وفاعلا لأسباب سوسيولوجية وإقليمية، كما أن أهالي الجنوب هم أقرب للاعتدال وأقرب لخصوصية وطنية تتناقض مع ماهية المنتسبين للتيار المدخلي.
ـ لن يتوقف خطر البعض من المنتسبين للتيار المدخلي المشحونين بالمقولات التكفيرية للمدخلي، عند بعض جرائمهم السابقة في ليبيا على غرار جريمة اغتيال الشيخ نادر العمراني، ولن تتوقف تلك الجرائم في ليبيا وفي الإقليم، إلا إذا تداعى علماء الأمة وقادتها ومُفكروها للتحذير منهم ومن ضلالاتهم وانحرافاتهم دون مُواربة بل لابد من انجاز تحقيقات امنية واستقصائية لجرائم الاغتيالات التي حدثت في بنغازي سنوات 2012و2013 و2014.
ـ ستبقى التصريحات العلنية للمدخلي بشأن ليبيا، مُتناقضة في غالب الأحيان، بل واعتبرها المُتابعون والكثيرون في ليبيا مسيئة وتدخلا لا مبرر له في الشؤون الداخلية للبلاد، وهي تصريحات ستٌقلل من قدرة الفاعلين في التيار المدخلي مستقبلا على التلاؤم مع التطورات المستقبلية في ليبيا وخاصة في حال نجاح الحوار الليبي في الوصول الى توافقات مُهمة لان أغلبهم لا يستطيع السباحة الا في مستنقعات الفوضى العارمة وهُم ذوي قُدرة على الهدم لا على البناء ولن يستطيعوا التلاؤم العملي والفعلي مع مسار ديمقراطي انتقالي.
ان بعض القوى الإقليمية والدولية من الممكن أن تُوظف مستقبلا أتباع التيار المدخلي بناء على توظيف شيوخهم الإقليميين على غرار “الرسلاني” أو ”البرهومي” و مُنظري التيار(المدخلي والجامي) كمقدمات موضوعية لضرب استقرار الجزائر ولو على مدى بعيد
كما يمكن توظيفهم في اعاقة ناعمة لتجربة الانتقال الديمقراطي في تونس وتعطيل تجديد الفكر الديني وتطوير الشأن الديني عبر الدفع للخيار المصري عبر استنساخ تجربة حزب النور من خلال الدعم اللوجستي والمالي وعبر أدبيات فكرية وسياسية وإعلامية وتوجيه مدقق استخباراتيا عبر لافتات إعلامية واقتصادية وعبر مجالات الفنون والفلاحة والسياحة والعلاقات الخارجية وعبر استراتيجيات الانقلاب الناعم على مسار الثورتين الجزائرية والتونسية.
بقلم: ابونادين
المصدر: صحيفة الرأي العام التونسية