هل نحن حقا مالكيون ؟ (1)
يعيش المواطن الليبي حياته كلها وفق مذهبه الديني.. فيأكل وينكح ويطلق زوجته أو يتزوج عليها أخرى ويشتري ويبيع ويؤدي فريضة الزكاة والصلاة أيضا وفق ما ينص مذهبه بل إنه يكوّن رأيه السياسي والاجتماعي بحسب فتاوى شيخه المعتمد من الدولة فالمذهب مسئول عن جزء رئيسي في حياتك وحياتي وحياة الذين يعيشون في ليبيا رغم قلة معرفتنا بالمذهب… وعلى الأرجح أن هذه المعرفة الضيقة هي ما جعلنا ( نجري) بـأوهامنا في مضمار الأزمة الحالية بجميع مظاهرها الثقافية والاقتصادية والسياسية .
إذاً دعونا نتحدث عن المذهب كما لم يتحدث عنه الليبيون من قبل:
حتى نفهم علاقة الدولة بالمذهب، وعلاقة المذهب بحياتنا وأزمتنا الاجتماعية الثقافية الموحلة، علينا أن نعرف أن:
الفتوى هي أم المذهب.. والمذهب بدوره أنجب نموذج العالم/ الفقيه/ المفتي فصار الأخير ظاهرة اجتماعية وسياسية خطيرة للغاية…
و يشرح الأستاذ الطاهر الزاوي في مختار القاموس كلمة (فتــوى) بمعنى الإبانة أو الإيضاح، “وأفتاه في الأمر : أبانه له ” وهو ما يعني أنه ثمة أمور مبهمة في الدين بحاجة للفتوى أو الإبانة . وقديما كان الآباء أو المعلمون المحليون هم الذين يعلمون الناس وصغار السن تطبيق العبادات مثل الغسل أو الوضوء والزكاة ، وإذا تعدى الأمر للمسائل الاجتماعية توجهوا إلى أي مفت يستفتونه (1 / 19)
وكان الصحابة أنفسهم يستفتون القرّاء منهم… أي “الحاملون لكتاب الله، فهم العارفون لدلالاته” 1 / 47
وبعد عصر الصحابة ، أخذ الناس الفتيا عن التابعين 1/ 48
وعندما تداول الناس في كل منطقة أقوال التابعي الذي عاش فيها…وأتبع الناس تلك الأراء لإعانتهم على إقامة شعائر الدين، تشكلت الوحدات الاولى للمذاهب… كان ذلك في القرن الرابع الهجري 1/ 17
تبدو هذه البداية البسيطة للفتوى بعيدة عن حالها اليوم… إذ تطورت من كونها نصيحة وإيضاح لأمور الدين كما رأينا، إلى منظومات مختلفة ومنتشرة على الانترنت والمساجد والتلفزيونات…
ويرجع هذا الأمر إلى تعدد آراء الصحابة والتابعين الذي أدى لظهور مذاهب كثيرة … فعلى عكس الاعتقاد السائد اليوم، فإن المذاهب السنية أكثر من أربعة… ولكن انقرض معظمها وتغلبت عليه المذاهب المشهورة المعروفة اليوم !
ومن المذاهب المنقرضة مذهب سفيان الثوري بالكوفة والحسن البصري في البصرة والاوزاعي بالشام والاندلس وابن جرير الطبري وابن ثور في بغداد وداوود الظاهري في غيرها من البلدان !1/47
ولم تكن الأسباب الرئيسية التي ساعدت المذاهب الأربعة على البقاء دينية فلا فرق أو تفضيل بين العلماء المؤسسون للمذاهب وإنما كانت السياسة هي السبب الرئيسي لنجاتها من النسيان… وهنا نضع أصبعنا على التقاطع بين السياسة والمذهب الديني … والأمثلة على ذلك كثيرة، منها، وضع الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة 170 هجرية وظيفة القضاء في يد أبو يوسف وهو أحد أكبر الفقهاء الحنفيين…وسيطر أبو يوسف الحنفي على القضاء لدرجة أنه لا يُولى قاض في العراق والشام وخراسان ومصر إلا من أشار به وكان هو لا يولي إلا أصحابه. أي قضاة مذهبه 2/51 وأُجبر الناس على إتباع فتاوى وأحكام المذهب الحنفي 2/52… ومن هنا نفهم كيف نجا هذا المذهب على خلاف غيره !!
كذلك انتشر المذهب المالكي في الأندلس بسبب نفوذ الإمام يحي بن يحي بن كثير…
ويحدث أن الناس يتشبثون بما لديهم لدرجة أن تبديل مذهب بآخر سبّب حالة شغب في المجتمع، يُذكر أنه عندما نقل الخليفة العباسي أمر القضاء من الحنفية إلى الشافعية أصبح المذهبان في بغداد عاصمة الخلافة “حزبان ثارت بينهما الفتن “.
أما في منطقتنا فكان الغالب على أجدادنا السنن والآثار المتواترة عن الرسول والصحابة… حتى مجيء الفقيه أبو فرُّوح بمذهب أبو حنيفة..2/53 وعندما تولي المعز بن باديس إمارة أفريقية، حمّل أهلها على إتباع المذهب المالكي إلا القلة التي بقت على المذهب الحنفي 2 / 54
من هذه الأمثلة، يمكننا فهم علاقة المذاهب بالدولة – بمعناها الغلبة وليس بالمعنى الحديث .
لكن أليست المذاهب هي مجموع اجتهادات الفقهاء لتسيير الحياة وفهم الدين بأكثر الوسائل سلاسة؟ فلِم يفرض الساسة مذهبا معينا أو تحدث بين مذهبان فقهيان سنيان فتنة بما أنه لا خلاف بين المذاهب كما نسمع هذه الأيام على التلفزيون؟… حقيقة لا أعرف الإجابة…
ما نعرفه الآن أن المذاهب الأربعة تغلبت على المذاهب الأخرى في القرن السابع وأفتى الفقهاء بوجوب إتباعها 2/ 94 ونسي كل ذلك الصراع… أم تراه بقى ؟!
أقصد… أننا نسمع اليوم عن ” أن الليبيين مالكيين من يوم يومهم” وهو تصريح خطير بقدر ما هو غامض، وعادة ما تكون العبارات الخطيرة غامضة…
خصوصا بعدما رأينا ارتباط المذاهب مع الساسة !
ولكن تاريخنا لا يوافق هذا القول، أقصد، أن الليبي (العادي) لا يفقه شيئا في هذا الأمر، فهو متّبع لأي مذهب يُفرض عليه ويعتبره صحيحا في معظم الأحيان… وهذا ما يجعله اليوم مالكي وفي أزمنة أخرى شيعي وإباضي وحنفي… ، ولا يمكنه اليوم أن يتفرد بأي من هذه المذاهب في تعريف نفسه ، فهو يحيا بحكم العادات كما ذكرنا سابقا، وهذه العادات متراكمة عبر الزمن الطويل ومتداخلة مع مكونات ثقافتنا الأخرى والتي منها المذهب، وليبيا بحكم موقعها الجغرافي صفحة بيضاء تنتظر من يكتب عليها تاريخه ! وهى أيضا بحكم موقعها وبيئتها مساهم رئيس ومخزن تاريخي لجميع المذاهب التي مرت بأرضها.
فلنر كيف أن الليبي أكثر من مجرد مالكي:
أولا: هو إباضي… ولا يزال العديد من الليبيين اباضيون منذ أن دخل الداعية سَلَمَة بن سعد الحضرمي ليبيا بعد سنة 95 هجرية واستقر في جبل نفوسة بين قبائل هوارة الأمازيغية ودفع زعماء البربر للذهاب إلى لبصرة للتعلم على يد شيخ الإباضية في ذلك الوقت ابي عبيدة مسلم بن أبي كريمة
3 /199.
وليس هذا فقط بل أن أول دولة إباضية أو (إمامة ظهور) كانت في طرابلس بقيادة أبو الخطاب المعافري الذي ” أحسن السيرة وأظهر العدل و لم يتعرض للناس بأذى ” 3 /218
ويروي لنا الدكتور الطاهر عريفة عن تنوع المذاهب في فزان في “المسيد” فيقول: والمسيد من المسجد لكنه مسجد خاص بناه صاحبه أو مجموع سكان القرية ليتفقه فيه الناس اللغة وأمور الدين أو لنشر مذهب خاص في الفقه خاصة في القرن الهجري الثاني حيث كثرت المذاهب الفقهية من خوارج اباضية وصفرية وازارقة، أو سنية مالكية أو حنفية أو شيعية كما هو الحال في قيام الدولة الشيعية في شمال افريقيا 4/39
ثم يروي لنا عن احتضان مدينة زويلة للمذهب الشيعي:
” ان التشيع دخل مبكرا إلى هذه المدينة وهذه أحد أسباب التجاء دعبل الخزاعي الشاعر الهجاء المعروف بتشيعه لآل البيت إلى هذه المدينة وموته بها سنة 231 هـ” (4/158)
ويتفق الدكتور عبد العزيز الصويعي مع ما ذكرناه عن بقاء آثار المذاهب في العادات، فالليبيون رغم سنيتهم اليوم إلا أنهم: “وقعوا تحت التأثير الشيعي زمن الدولة الفاطمية وبقى ذلك التأثير إلى زمن ليس ببعيد… بل ان بعض ملامحه لا تزال واضحة في بعض العادات والتقاليد المحلية حتى الان.. 5/179)
وساهمت ليبيا بشكل رئيسي في إقامة الدولة الفاطمية، شيعية المذهب منذ أن أرسل رستم بن حوشب رئيس الدعوة الشيعية في اليمن سفيان والحلواني إلى تونس وطرابلس واستطاعوا أن يتوغلوا بأفكارهم في قبائل البرانس ذات القوة والشكيمة والعدة والعتاد”6 / 47 كان ذلك سنة 145 هـ
وكان الحكم السياسي للفاطميين مليئا بالظلم والجور لهذا كرههم الليبيون وعلى الرغم من ذلك لم يمانعوا المذهب نفسه ولهذا بقت العادات الشيعية أمدا طويلا حتى بعد أن حاربها الشيوخ المنتمين لمذاهب سنية !!
…………….. يتبع
بقلم / عبدالوهاب العالم