هل نحن حقا مالكيون ؟ (2)

كذلك تعد ليبيا المسئولة عن تعريف المغاربة على كتاب الإمام مالك من خلال الفقيه أبو الحسن علي بن زيد العبسي الذي” ولد بطرابلس ثم انتقل إلى تونس فسكنها” .7/185

وهو” أول من ادخل الموطأ وجامع سفيان المغرب وفسر لهم قول مالك ولم يكونوا يعرفونه “وهو الذي علم الامام سحنون الفقه”7/186

ناهيك عن  الفئة التي اتبعت المذهب الحنفي طيلة الوجود العثماني في ليبيا والتي أنتجت نخبة من العلماء الكبار مثل الشيخ عبد الرحمن البوصيري والعلامة الكبير مصطفى كامل بن محمود الذي كان مدرسة أخرجت شخصيات وطنية كبيرة منها الشاعر أحمد الشارف والمناضل محمد فرحات الزاوي .

وغيرها من الشواهد التي تدل على سهولة انقياد الليبيون خلف الدعاة على اختلاف دعواتهم، مما جعلهم متعددو المذاهب، ويستمر الانقياد اليوم خلف أي دعوة جديد لإتباع مذهب جديد سيتحول بعد فترة إلى هوية لها شعارات مثل: “الليبيين مالكيين من يوم يومهم”

ألهذا علاقة بالسياسة أو بغفلة الناس عن حقيقة أن المذاهب اجتهادات متراكمة تولد وتنقرض مثلهم تماما؟

فللمذاهب عمر وفترات تفوق وعجز مثلما للأشخاص… كما أنها تختلف بحسب البيئة التي تكونت فيها والبيئة التي انتشرت داخلها…وعند النظر إلى قصة تأسيسها نستطيع إدراك الكثير ، إذ تأسس المذهب الحنفي في القرن الثاني الهجري على يد الإمام أبو حنيفة وأصحابه فلم يكن الإمام وحده الذي وضع المذهب وإنما بمشاركة كبار تلاميذه الذين خالفوه في بعض المسائل الأصلية والفرعية ! 8/18

ثم واجه المذهب مرحلة جمود عندما لم يخرج الفقهاء عن اجتهادات السابقين لهم إلا في حالات الضرورة 8/18

أما مذهب الأمام مالك وهو ثاني أقدم المذاهب بعد المذهب الحنفي بدأ تأسيسه على يد الإمام منذ سنة 110 هجرية 8/29 ووصل إلى مرحلة الجمود والعجز في القرن السابع 8/71 حيث لم يعد يضيف العلماء شيئا للمذهب سوى الحواشي والمختصرات للمؤلفات السابقة بيد أنه ظهرت اجتهادات فردية أخذت طريقا مختلفا عن مجمل المدارس في المذهب الواحد.

وبدأ الشافعي وضع مذهبه في العراق مستقلا عن مذهبه القديم المالكي, وفي مصر غيّر العديد من اجتهاداته وعدل آرائه  فظهر مذهبه الجديد8/132

ووصل المذهب لمرحلة الجمود حيث ظهرت الحواشي والمختصرات واعتبر كل ما ألف في هذه المرحلة “خادما لكتب أئمة المذهب” ! 8/138

أما الإمام احمد ابن حنبل فمنذ جلوسه للفتوى والتدريس سنة 204 هجرية 8/ 175 وأصحابه لهم دور هام في تأسيس ونشر المذهب وكالعادة في مرحلة متأخرة اكتفى العلماء بالمختصرات والحواشي والتوضيح والتذييل

8/ 182

إن مرور الزمن… أدى لجمود المذاهب واكتفاء أغلب الفقهاء بالمختصرات والحواشي وخدمة المذهب نفسه… ولهذا لم يتجرأ أحد على تأسيس مذاهب أخرى ، وأُغلق باب الاجتهاد خارج إطار المذهب وداخله فلم تظهر مذاهب أخرى تتفاعل مع تغيرات الحياة المستمرة… هذا ما جعل الناس يتشبثون بمذهب واحد ويخلعون عليه قداسة لم يدعيها صاحب المذهب نفسه !

والوقت هنا عامل مهم لتوضيح سبب الاختلاف بين المذاهب الأربعة التي تعاملت مع الظروف الزمانية والمكانية بأن أضافت قواعد جديدة لقائمة أصول الفقه مثل القياس والاستصحاب والاستحسان وسد الذرائع، فتوسع المالكية في القياس ” حتى أنهم يقيسون الفروع على الفروع المستنبطة بالقياس” 8/ 75 !!

كذلك أضافوا قاعدة “المصالح المرسلة” وهي “الأمور التي سكت الشرع عنها وبالتالي أخذ الإمام بالحكم بالأصلح فيما لم يرد عليه نص” 8/79

وكذلك سد الذرائع وهو منع ما يجوز حتى لا يتطرق إلى ما لا يجوز وهذا بسبب تطور المجتمع فيستشرف الفقيه المستقبل وما ستؤول إليه الممارسات الحالية فينهي عنها قبل أن تؤدي إلى “ما لا يجوز”8/81.

والمصالح المرسلة وسد الذرائع بالذات، إسعاف لحاجات تطلبها الزمان والمكان ولكن يمكن أن تتحول في زمن الجمود والانحطاط  إلى تضييق على المجتمع، الذي وسع على الفقيه نفسه، بعد ظهور الاختصاص الأكاديمي… فقد استعاض المجتمع عن الفقيه الذي يحدد صرف الأموال بالخبير الاقتصادي الذي يرسم خطة اقتصادية تعتمد على منهج علمي حديث.

وبدل الفقيه الذي يفتي بسد الذرائع لدرء المفاسد يوجد اليوم أخصائيين نفسيين وعلماء اجتماع قضوا حياتهم في دراسة المجتمع وحركته وفق مدارس تجريبية… وعوضا عن العلماء الناصحون للخليفة، يوجد اليوم أساتذة علوم سياسة ومفكرون استراتيجيون يقدمون خارطة طريق للحكومة وسلب علم الإحياء مَهمة تحديد بنوة الطفل من حوزة المفتي، واكتفى الناس بالقضاء الحديث والانترنت والتلسكوب الفضائي والأجهزة الطبية الحديثة وجميع وجوه التكنولوجيا عن الحاجة للأشخاص… ولا نستطيع اليوم أن نبتر أنفسنا من حركة العالم لسبب بسيط وهو أننا أصبحنا بعد وسائل التواصل الحديثة جزء منها يتفاعل لحظيا مع الكل النشط !

ومع ذلك يمكن للفقيه اليوم، أن يصدر فتوى ويسحبها على الواقع بحجة سد الذرائع.. ولا يمكن لغيره أن يعارضه بدعوى أنها أمور نص عليها المذهب ويتبعه الناس حاملين أجهزتهم النقالة المتصلة بالانترنت، بذهول تام… بينما يمكنهم عبر إجراء بحث صغير على الانترنت معرفة حقيقة بسيطة وهي أن الفتوى: إخبار بالحكم الشرعي وليست هي ذاتها حكما… فهي لا تلزم !

لكن الذهول أعقد من مجرد إجراء بحث على الغوغل، فالأزمة الليبية تمكث بين الانترنت والفقيه أو دعني أقول بين التطور المستمر والمذهب الجامد وهي أزمة نشأت منذ زمن بعيد، ويمكن القول أنها أحد الأسباب التي دفعت الإمام ابن الصلاح في  القرن الخامس الهجري لتأليف كتابه الشهير “أدب المفتي والمستفتي” ، والملفت أن ما ينصه الكتاب من آداب للمفتي لا نجدها في المواقع الالكترونية والفضائيات التي اعتمدت كمنابر للإفتاء…

يحدثنا ابن الصلاح عن تعاظم شأن الفتوى في عصره فنقل لنا القول السائد حتى هذا اليوم: أن الفتوى توقيع عن الله !! 9/72

ويقول المؤلف أن  أكابر العلماء وأفاضل  السلف والخلف كانوا يهابون مهمة الإفتاء بل كان كثير منهم حينما “يسالوا يقولون لا نعرف أو يسكتوا حتى وقت لاحق” 9/74

وينقل لنا ابن الصلاح ما رُوي عن سفيان بن عيينة والإمام سحنون قولهما: أجسر الناس على الفتيا، أقلهم علما ” 9/78

ويقول الإمام : إن الأولى للمفتي أن يتبرع بعمله هذا وألا يرتزق من عمله بالفتوى من بيت المال…” لكن اليوم تغيرت الأولويات كثيراً …9/114

ومن الأشياء الملفتة التي ذكرها ابن الصلاح أنه يمكن للمرأة أن تكون مفتية!!  9/ 106ورغم ذلك يمكننا أن نعد  الفقيهات في  تاريخنا  على أصابع اليد الواحدة…

أما أخطر ما ذكره ابن الصلاح هو تفريقه بين عمل القاضي والمفتي في قوله: أن فتواه – أي المفتي- لا يرتبط بها إلزام بعكس القاضي !

وهنا يميز ابن الصلاح بين النصيحة الموجهة في أمور الدين والحكم القضائي الملزم  الذي يصدر عن جهة حكومية، كان هذا في القرن الخامس الهجري، فلماذا نواجه صعوبة اليوم في التفريق بين هاتين المهمتين؟

ويعود مؤلف أدب المفتي والمستفتي إلى الفصل بين الوظيفتين بأن يمنع المفتي من قول “هذا حلال الدم ويُقتل”  حتى فيمن قال قولا يكفر به مثل : الصلاة لعب أو الحج عبث !! ولكن بحسب ابن الصلاح عليه أن يقول: إذا ثبت أنه قال هذا بالبينة أو الإقرار، يوجه للسلطان ليستتاب فإن تاب قبلت توبته وإن أصر على قوله ولم يتب “قُتل وفعل به كذا وكذا ” !! فعلى المفتي أن يتحقق من الأمر قبل الجواب فقد يكون الكلام في هذه الحالة يحتمل أمورا لا يكفر ببعضها !! 9/142

وبما أن للمفتي آدابا أو قواعد يلتزم بها فكذلك للمستفتي وهو السائل آداب ذكرها ابن صلاح بشيء من الاقتضاب…

والحقيقة أنه ثمة صنف ثالث بالإضافة للمفتي والمستفتي، وهو الباحث المجتهد، الذي يغني بعلمه وبحثه عن سؤال المفتي أو الفقيه / العالم

وكما أن على المفتي المطلق كما يسميه ابن الصلاح أن يكون عارفا بالأحكام وأمهات كتب الفقه والحديث وتفاسير القرآن…  حتى يشترط فيه الجمع بين الحساب والفقه ضمن قائمة طويلة من المواصفات الصعبة 9/ 89 فثمة أناس فقهاء بيد أنهم لا يعملون في مجال الفتوى وهؤلاء هم المجتهدون…

و يمثل المجتهد ظاهرة متفردة (غير عادية) تضاهي الفقيه المطلق،

فمنذ انتهاء عصر الفقيه المطلق 9/91 وانتشار نوع المفتي المتخصص في باب معين من العلم مثل علم المناسك أو علم الفرائص دون الإحاطة بجميع جوانب الفقه9 /89 تميز هذا النوع الثالث وهو المجتهد الباحث الذي لا يلجأ للفقيه لمعرفة أمور دينه بل يستفتي نفسه ويبحث ويتقصى متكأ على عقله وقدراته الشخصية.

وأثار هذا النوع من المجتهدين جدلا كبيرا بين المشتغلين في مجالات الدين… فهو (الحكيم) الذي يتوفر على ذكاء ووسع اطلاع مما جعل الفقهاء يعجبون به ويحثون الناس على التقيد به بنفس القدر الذي جعلهم يتخوفون منه، ولا ينفك هذا النموذج عن الظهور حتى عندما تمر المذاهب بمراحل الجمود والعجز كما تقدم !!

ينقل لنا  ابن تيمية جانبا من هذا الجدل: فقد اوجب الكثير من الفقهاء والمتكلمة النظر والاستدلال على كل أحد حتى على العامة والنساء حتى في المسائل التي تنازع فيها فضلاء الأمة… فقالوا: إن العلم بها واجب ولا يحصل العلم إلا بالنظر الخاص

أما الفريق المخالف, يحرمون النظر في دقيق العلم والاستدلال حتى على ذوي المعرفة ويوجبون التقليد في هذه المسائل أو الإعراض عن تفصيلها 10/202

ويلخص لنا ابن تيمية الأمر بأن: للعامي ان يجتهد حينما يمتلك القدرة على ذلك وحينما يعجز على المسألة التي يجهتد فيها فعليه بالتقليد … والأمر كله بحسب ابن تيمية منوط بالقدرة الشخصية للفرد 10/203

تخيل معي هذا المثقف الناضج المعتمد على نفسه في البحث والإفتاء لنفسه دون الحاجة للغير… وأقول تخيل معي، فهذا النموذج المميز نادر اليوم وسط أسئلة الناس المنتشرة على الانترنت والتلفزيون حول توافه الأمور… وسيادة سؤال ” ما حكم” حتى في الوقائع التي تتطلب جهدا عقليا بسيطاً !!

والغريب أن القدرة التي يجعلها الإمام ابن تيمية معياراً للاجتهاد…هي أسهل اليوم مما كانت عليه في عصره، فإذا كان الاجتهاد قبلا يتطلب السفر مسافات طوال للحصول على معلومة واحدة فإنك اليوم قادر على الوصول إلى كم هائل من المعلومات عن طريق الغوغل… ويمكنك تحميل مكتبة كاملة على جهازك المحمول بينما كان الكتاب باهظ الثمن  في عصر ابن تيمية، ورغم ذلك يضج الانترنت بأسئلة من مثل: هل النقاب فرض أم سنة؟

ويعلق ابن تيمية على هذا الاتكال بقوله: أما التقليد الباطل المذموم فهو: قبول قول الغير بلا حجة 10/15

والحقيقة إن الوقت الذي تتفوق فيه أسئلة من مثل “ما حكم الحديث مع الفتاة على الفيسبوك  شرعا ؟” يفضح جمود الفقه نفسه بل عجز عقل الإسلام نفسه عن الاجتهاد والتطوير !

وفي هذا السياق يقول ابن تيمية أن الله جعل العلماء  بمنزلة النجوم التي يُهتدي بها في ظلمات البر والبحر 10/232 إلا أنه يشدد على أنه لا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول 10/209

فما موضع شعارات “لحوم العلماء مسمومة” و “الإتباع الأعمى للسلف” من قول شيخ الإسلام الذي نجده في موضع سابق من كتابه (التمذهب) يقول بأن الأئمة الأربعة أنفسهم نهوا الناس عن تقليدهم 10/10

ويثمن الإمام ابن تيمية الاجتهاد الإنساني الفردي في حل الأزمات والمحن في قول عذب نختم به بحثنا :

(فينبغي للإنسان أن يعوّد نفسه التفقه الباطن في قلبه والعمل به، فهذا زاجر. وكمائن القلوب تظهر عند المحن ) 10/9

* يشير الرقم الأول إلى رقم المرجع في قائمة المراجع ويشير الرقم الثاني إلى رقم الصفحة المأخوذ عنها.

1- الاجتهاد والمسائل الفقهية – أبو الحسن على الحسني النذوي-المجمتع الإسلامي العلمي 1983-الهند

2 – كتاب المذاهب الفقهية الاربعة الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي وانتشارها عند جمهور المسلمين  أحمد تيمور باشا  -دار الآفاق العربية -مصر

3 – نشأة الحركة الاباضية الدكتور عوض محمد خليفات دار الحكمة لندن الطبعة الثانية 2013

4 – تاريخ فزان الثقافي والاجتماعي – الطاهر المهدي بن عريفة-تاريخ فزان الثقافي والإجتماعي طرابلس- ليبيا الطبعة الاولى 2010  

5- حديث الحل والترحال بين الجوش والجوف- الدكتور عبد العزيز سعيد الصويعي-وزارة الثقافة والمجتمع المدني-الطبعة الأولى 2013-ليبيا طرابلس

 6- الدولة العبيدية في ليبيا تأليف على محمد علي الصلابي –دار البيارق-عمان -الأردن الطبعة الأولى 1998

7- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك – القاضي الفضل عياض ضبطه وصححه محمد سالم هاشم الجزء الاول دار الكتب العلمية – بيروت لبنان الطبعة الاولى 1998

 8- المذاهب الأربعة أئمتها أطوارها أصولها آثارها تأليف وحدة البحث العلمي بادارة الافتاء الطبعة الأولى 2015 الكويت

 9- أدب المفتي والمستفتي –ابن الصلاح –دراسة وتحقيق الدكتور موفق بن عبد الله بن عبد القادر –مكتبة العلوم والحكم ، عالم الكتب –الطبعة الأولى 1986

10- مجموع الفتاوى المجلد العشرون: -كتاب أصول الفقه الجزء الثاني : التمذهب أحمد بن تيمية –جمع الترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وساعده ابنه محمد-مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف – المدينة المنورة 2004


بقلم عبد الوهاب العالم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى