الوهابية في ليبيا… محاولات التوطين

سُميت الحركة بالوهابية نسبة إلى مؤسسها محمد بن عبد الوهاب، ولكن أتباعها يفضلون تسميتهم بالسلفية لإدعائهم  بأنها دعوة دينية وليست حركة سياسية. يرى الكثير من العلماء أنه من الضروري تسميتها بالوهابية للتعريف بحقيقتها والإشارة إلى النموذج السلفي للدولة الدينية في السعودية. كذلك يرى بعض المفكرين أن الوصف الصحيح للحركة هو الوهابية السعودية  لأنها جسدت التحالف التاريخي بين السلطة السياسية ممثلة في ابن سعود والسلطة الدينية ممثلة في ابن عبد الوهاب. كذلك يعتبر فقهاء المدرسة الوهابية اليوم هم المرجع الديني الرئيسي في المملكة العربية السعودية.

يعود تاريخ نشأة هذه الحركة التي ظهرت فى شبه الجزيرة العربية إلى القرن الثامن عشر عندما سعى محمد بن عبد الوهاب إلى نشر مذهبه بالقوة و تحالف  مع محمد بن سعود وأعلن الجهاد على الخلافة الإسلامية  لإقامة ما وصفه بدولة التوحيد والعقيدة الصحيحة. لذلك شن الوهابيون بقيادة زعيمهم سلسلة من الحروب راح ضحيتها العديد من المسلمين والتي إعتبرها الكثير من العلماء مواصلةً لطريقة الخوارج في إستناد نصوص الكتاب والسنة التي نزلت في حق الكفار والمشركين وتطبيقها على المسلمين بحجة تطهير أمة الإسلام من البدع والشرك. يدعي أتباع  الوهابية أنهم أتباع الفرقة الناجية وبأن حركتهم دعوة إلى التخلص من العادات التي يرونها مخالفة للإسلام والرجوع إلى طريقة “السلف الصالح” في اتباع القرآن والسنة دون الإعتماد على المذاهب الفقهية الأربعة.

إنتقد عدد كبير من علماء الدين والسنة الحركة الوهابية منذ ظهورها بصورة عامة وبالتفصيل في كتب عدة وأجمعوا على سمات التشدد في خطاب الوهابية والتصلب في المواقف الذي أسهم في إعداد أرض خصبة لنمو وتصدير “السلفية الجهادية”. من أهم الإنتقادات أيضا هو الإفراط في تضليل و تكفير مخالفيهم في الرأي ومعارضيهم و اتهماتهم لأئمة السنة و تكفير الشيعة والصوفية وتغيير ما كان يخالف منهجهم من كتب التراث الإسلامي. كذلك الغلو في الدين والتهجم على العباد في كل كبيرة وصغيرة وكلما سنحت الفرصة بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصرار على الإسناد الإنتقائي الضيق في تفسيرهم وفهمهم لكثير من الأمور وبذلك يعتبرون العديد من أوجه الحياة العصرية وجوانبها الثقافية والفنية والسلوكية بدع وتشبه بالكفار والنصارى وشرك. هدم القبور والأضرحة والشواهد والآثار لإعتقادهم أن التردد عليها وزيارتها  ضرب من الشرك والوثنية رغم أهميتها التاريخية و الأثرية والفنية والدينية للمسلمين وغيرهم. أيضا تحريمهم الإحتفال بالأعياد والمناسبات كالمولد النبوي وغيرها لإعتبار ذلك تعظيم وعبادة و التي تعد من العادات والتقاليد الإجتماعية  في كثير من الدول الإسلامية ومن طقوس الصوفية المعروفة ولهذا دخلوا في مصادمات مستمرة مع الصوفية وأتباعها وكثير من الناس  في العالم الإسلامي و ليبيا بالذات. تمسكهم بفكرة وجوب طاعة ولي الأمر أي الحاكم في كل الظروف حتى وإن كان مستبدا رغم أن علماء الإسلام أكدوا بأنه لا قدسية للحاكم، وهناك من شدد على ضرورة محاربة الإستبداد وأن الخروج على الحاكم الجائر والثورة على حكمه تعتبر واجباً على المسلمين.

خصوصية ليبيا تكمن في مناعتها الطبيعية ضد الحركات الإسلامية ووعي شعبها الذي تمسك بالوسطية وعدم الإنسياق وراء تيارات الجماعات الدينية رغم محاولة بعضها التوغل بين أوساط المجتمع منذ نشأتها ولكنها نشطت في السيطرة على زمام الأمور بعيد الإطاحة بالنظام السابق الذي كبح جماح هذه الحركات مستغلة الفوضى السياسية وغياب دولة القانون. يتبع أغلب سكان ليبيا مذهب الإمام مالك ولذلك يعتبرون الحركة الوهابية مثل غيرها من الحركات المستوردة دخيلة عليهم وتمثل التبعية العمياء لشيوخ وأمراء السعودية  الذين هم محل إنتقاد من قبل كثير من علماء الإسلام. عزوف الليبيين وعدم تقبلهم للجماعات الإسلامية ورفضهم للتطرف يعكس حرص الليبيين على الهوية والموروث الثقافي لذلك كانوا دائما ضد الغلو في الدين وتصنيف المسلمين  وضد فكرة تحويل الإسلام إلى جماعات هدفها الفرقة والإنشقاق والسيطرة على العباد بإسم الدين.

عمد النظام السابق في ليبيا إلى إنشاء المجلس الأعلى للطرق الصوفية لتطويق الأفكار التي كانت تروج لها الحركة الوهابية الوافدة من السعودية والتي كانت تعمل بسرية طيلة العقود الأربعة من عمر النظام. إنطلق أتباع الوهابية في نشر أفكارهم في طول البلاد وعرضها مباشرة بعد سقوط نظام القذافي  وحدثت بالفعل مواجهات في ليبيا عندما قامت مجموعات مسلحة يُعتقد أنها تنتمي للحركة الوهابية بنبش قبورعدد من الشيوخ والأولياء ورجال الدين في المساجد و في المقابر ودفنها في أماكن مجهولة. ثم خرجت مظاهرات على إثر ذلك في أماكن متعددة من ليبيا إحتجاجا على هذه الأعمال. وكانت عمليات نبش القبور وهدم الأضرحة قد بدأت بعد إعلان تحرير البلاد في شهر أكتوبر 2011 في مدن المناطق الشرقية وامتدت إلى مدن الغرب الليبي وطالت عددا من المساجد التاريخية واستمرت الأعمال التخريبية رغم موجة من الإحتجاجات في أماكن ومدن مختلفة. وانتقد كثير من العلماء والكتاب  وأتباع الصوفية في ليبيا  تشدد الوهابيين وتجاوزاتهم وعدم مراعاتهم للقانون والإفراط في فرض أفكارهم رغم أن الحديث المنسوب للرسول محمد صلى الله عليه وآله سلم والذي يستند إليه الوهابيون لنبش القبور مشكوك في صحته مؤكدين أن الإسلام يحرم نبش القبور.

لم يقف أتباع هذه الحركة عند هذا الحد بل قاموا بسلسلة من الأعمال التي أثارت القلق بين كثير من الليبيين كقيام العديد من الوهابيين بإمامة المصلين في الساحات بداية من صلاة عيد الأضحى خلال شهر نوفمبر 2011 لينشروا من خلال خطبة العيد جملة من أفكارهم ومنها “تحريم الأنترنت ولعبة الشطرنج والتلفزيون وخروج المرأة إلى الأسواق وتحريم حلق اللحية إلى غير ذلك من منهج الوهابية” الأمر الذي أثار حفيظة المصلين الليبيين الذين اعتادوا على خطبة التسامح والتراحم في العيدين على مدى السنين. واستمر الحال إلى أن وصلت الدرجة إخيرا إلى استضافة شيخ من السعودية سبق له القتال في أفغانستان حيث أشاد بالمناسبة السعيدة وهي مصادرة شحنة من الكتب، كما هاجم الصوفيين والخوارج والإخوان المسلمين والعلمانيين، خلال خطبة صلاة الجمعة في إحدى المدن الليبية وهو أحد تلاميذ فقيه وهابي سعودي معروف وله أتباع في عدد من المناطق و سبق له وأفتى بهدم مقام شيخ صوفي في زليتن خلال شهر أغسطس سنة 2012. هناك مخاوف من الإستمرار في الترويج للخطاب السلفي الوهابي بهذه الطريقة وغيرها في إطار التدافع الإستراتيجي للتحكم في مفاصل الدولة، هذا بالإضافة إلى الترويج المُكثف عن طريق الفضائيات الدينية والمواقع الإلكترونية.

هناك مخاوف أيضا من استمرار هذه الإعتداءات التي يحرض عليها و يباركها شيوخ وفقهاء الوهابية و يدفع ضريبتها الموروث الثقافي والتاريخي الليبي والتي كان آخرها تخريب أحد المساجد التاريخية في مدينة طرابلس العام الماضي.  تطور الأحداث في ليبيا وغياب الدولة والقانون وتدخل بعض الدول لدعم ونشر مدارسها الفقهية في البلاد ساهم في تعقيد المشهد وتهيئة الظروف المناسبة لنشاط الجماعات الإسلامية بمختلف توجهاتها وساهم في انتشارها وخلط الأوراق السياسية والدينية وأظهر تحالفات خطيرة قد تؤدي إلى مزيد من الصراعات الدينية التي لا يحمد عقباها.


بقلم: عبدالحميد محمد

كاتب ليبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى