السَلفيّة المدخليّة في ليبيا : الهويّة و الأدوار

السَلفيّة المدخليّة في ليبيا : الهويّة و الأدوار

 ملخص

يطرح التمدد المتصاعد للفكر السلفي المدخلي في ليبيا أسئلة بالجملة حول هويته ومصادر قوته وارتباطاته الإقليمية والأدوار التي يؤديها في المشهد السياسي والأمني والاجتماعي المضطرب. ورغم “السلم الديني والمذهبي” الذي وسم المجتمع الليبي على امتداد تاريخه، فإن الوافد الجديد، وممارساته واصطفافاته السياسية، ينذر بخلخلة هذه المسلمات.


مقدمة

فجر السبت، الموافق 30 ديسمبر 2017، هاجمت كتيبة مسلحة، على متن عشرات السيارات، زاوية التاج بمدينة الكفرة، جنوب شرق ليبيا، ونبشت قبر الشيخ محمد المهدي السنوسي، ونقلت رفاته إلى مكان غير معلوم. لم تكن الحادثة الأولى من نوعها، فقد تم نبش قبور وزوايا في بنغازي وزليتن وطرابلس ومناطق أخرى، في أوقات سابقة، غير أن مكانة المهدي السنوسي في تاريخ ليبيا وفي توازنها الاجتماعي ساهمت في طرح الأسئلة، بوتيرة أكبر، حول الخلفيات السياسية والعقائدية التي تقف وراء الظاهرة الغريبة عن المجتمع الليبي. ولد الشيخ محمد المهدي بن محمد بن علي السنوسي سنة 1844، في الزاوية البيضاء بمدينة البيضاء، شرق ليبيا، وتوفي سنة 1902 في الكفرة. يعد الشيخ محمد المهدي السنوسي، وهو والد إدريس السنوسي آخر ملوك ليبيا، من رموز الحركة السنوسية في ليبيا، حيث امتدت الدعوة، في عهده، إلى تشاد والسودان والنيجر وغيرها من الأقطار الإفريقية، وكان له دور كبير في مقاومة الاحتلال الفرنسي، كما بدأ أولى خطوات توحيد الدولة الليبية.

 هوية الفاعلين

أثارت حادثة نبش قبر المهدي السنوسي وإخفاء رفاته موجة استنكار في الكفرة وعموم ليبيا. وأصدرت الهيئات الدينية والأطراف القبلية والسياسية والسلطات الرسمية بيانات حذرت فيها من التداعيات التي يمكن أن تنجر عن استفحال الظاهرة. ومنذ اللحظات الأولى، وجهت أصابع الاتهام إلى كتيبة “سبل السلام”، التابعة لـ”القيادة العامة” التي يتولاها خليفة حفتر، وأكثر الكتائب تسليحا في الكفرة. وتتولى الكتيبة، بأمر من حفتر، مهام أمنية وعسكرية في المدينة، إضافة إلى القيام بدوريات على الحدود الليبية السودانية، ويعرف عن معظم قادتها الكتيبة ومنتسبيها تبنيهم للفكر السلفي المدخلي (نسبة إلى رجل الدين السعودي ربيع المدخلي).

لم تكن حادثة نبش قبر المهدي السنوسي الأولى من نوعها، فقد تم، في السنوات الأخيرة، نبش قبور وهدم زوايا في مدن أخرى، على غرار زاوية الشيخ عبد السلام الأسمر في زليتن وأضرحة الفقيه المالكي أحمد الفاسي في مصراتة والدهماني في طرابلس والأندلسي في تاجوراء وسيدي يونس في بنغازي، وغيرها. وفي كل حادثة توجه أصابع الاتهام إلى التيار السلفي المدخلي، الذي لا ينكر وقوفه وراء بعضها، حيث قام أنصاره والمسلحون المحسوبون عليه بأعمال الهدم، في أكثر من مناسبة، بوجوه مكشوفة وفي واضحة النهار وبعد دعوات وإشادات وجهوها على منابر المساجد وعبر الإذاعات المحلية وشبكات التواصل الاجتماعي.

حديث النّشأة

سبق ظهور التيار السلفي المدخلي في ليبيا ثورة 17 فبراير بسنوات. ورغم العداء الذي أبداه نظام القذافي تجاه التيارات الإسلامية وتعاطيه معها بقسوة، إلا أن أسئلة كثيرة تواترت حول الأدوار التي قامت بها الأجهزة الأمنية في عهده، وخاصة جهاز الأمن الداخلي، في غض الطرف عن التيار السلفي المدخلي، وحتى في تمكينه من ترويج أفكاره في المساجد ووسائل الإعلام. وتزداد هذه الأسئلة وجاهة إذا علمنا أن شيوخ التيار في ليبيا كانوا من المقربين من الساعدي القذافي، نجل معمر القذافي، في السنوات الأخيرة قبل اندلاع الثورة، وتولى الكثير منهم مواقع متقدمة في الهيئة العامة للأوقاف وجمعية الدعوة الإسلامية العالمية، وهما مؤسستان رسميتان كانتا تقومان بأدوار دعوية وأمنية لصالح النظام في الداخل والخارج.

لم يعرف عن التيار السلفي المدخلي في ليبيا أي مواقف سياسية إلا عند اندلاع ثورة 17 فبراير، حيث وجه ربيع المدخلي رسالة إلى أتباع التيار في ليبيا وبلدان الثورات العربية، أكد فيها أن “الإسلام، لِكمال هديه وكمال حِكمته، يمنع الخروج على الحكام وما يؤدي إلى الخروج، ويأمر بالنصيحة والموعظة الحسنة النافعة بالطرق الحكيمة البعيدة عن الإفساد والمفاسد”[1]، وهي الفتوى التي روجها شيوخ التيار في ليبيا، وعلى رأسهم مجدي حفالة، بكثافة، من خلال ظهورهم المتواتر في فضائية وإذاعة “الجماهيرية”، وعلى منابر المساجد بالعاصمة طرابلس والمدن التي ظلت، لأشهر، تحت سيطرة قوات القذافي، ودعوتهم إلى طاعة ولي الأمر واعتزال “الفتنة”. بعد سقوط نظام القذافي، شهد التيار السلفي المدخلي تمددا في كامل مناطق ليبيا، بدرجات متفاوتة، مستفيدا من غياب الدولة، فاستقطب الأتباع من الشرائح الاجتماعية المختلفة، وأنشأ الإذاعات والجمعيات والمكتبات، وسيطر شيوخه على عدد كبير من المساجد، وبدأت تظهر، من خلال أنشطته، آثار اعتمادات مالية ضخمة بحوزته دون الإفصاح عن مصادرها. وبالتوازي مع ذلك، بدأ تعاطي التيار مع الشأن السياسي يتصاعد، فدعا إلى مقاطعة انتخابات المؤتمر الوطني العام سنة 2012، قبل أن يعود ويدعو إلى المشاركة بناء على فتاوى صادرة من شيوخ التيار بالمملكة السعودية.

المدخلية وسياسة الاختراق

انتهج التيار السلفي المدخلي في ليبيا، عقب سقوط القذافي، سياسة الاختراق للتمدد في مختلف المناطق والقطاعات. وتشير دراسة بعنوان “السلفية المدخلية في ليبيا: التوجهات والحضور وسبل الاحتواء”، أعدت لصالح جهاز المخابرات الليبي التابع لحكومة الوفاق، بتاريخ مارس 2017، وسربت نسخ منها إلى عدد من وسائل الإعلام، إلى أن التيار المدخلي يتمتع بحضور بين متوسط وقوي في العاصمة طرابلس والمدن العربية بجبل نفوسة، وبحضور متوسط في صبراتة وبنغازي وزليتن، وبحضور ضعيف في مصراتة والزاوية والجنوب، فيما ينعدم حضوره في درنة والمدن الأمازيغية بجبل نَفوسة. ويلاحظ، من خلال قراءة حضور التيار في مختلف المناطق، أن حظوظه تضعف كلما كان تيار ثورة فبراير قويا، على غرار مصراتة ودرنة والزاوية وبعض أحياء العاصمة. أما في الجنوب، فيمكن تفسير ضعف التيار المدخلي بانتشار الطرق الصوفية لدى قبائل المنطقة، وهي طرق يناصبها التيار عداء شديدا ويتهم معتقداتها بالشرك، في حين يظل المذهب الأباضي الذي يتبعه أهالي المناطق الأمازيغية في جبل نفوسة مانعا عقائديا لأي اختراق سلفي مدخلي.

لم يكن الاختراق الذي أحرزه التيار السلفي المدخلي داخل المجتمع الليبي، في مختلف المناطق، ليتحقق، بسرعة وكثافة، لو لم يكن معتمدا على جملة من الأدوات والأسباب التي تسهل حركته وتأثيره. ويشير التقرير المخابراتي سالف الذكر إلى أن التيار يمتلك آلة إعلامية ودعائية ضخمة، تتكون من 30 إذاعة تبث على موجة الإف إم وتغطي معظم مساحة ليبيا، ومئات الصفحات والمنتديات والإعلانات الممولة والمشهرة على شبكات التواصل الاجتماعي Sposored، كما يمتلك ما لايقل عن 10 مكتبات دور نشر تروج المنشورات السلفية المدخلية بأسعار زهيدة، ويتولى مشائخه ومروجوه الإمامة والخطابة والوعظ والفتوى في عدد كبير من المساجد بمختلف مناطق ليبيا.

تسليح التيّار

لم يتوقف الاختراق السلفي المدخلي في ليبيا عند الأدوار الاجتماعية والدينية والإعلامية، بل تعداها إلى مرحلة اكتساب القوة العسكرية من خلال اختراق الكتائب القائمة أو تشكيل كتائب جديدة، أو وضع المقاتلين على ذمة هذا الطرف أو ذاك. ومنذ انطلاق عملية “الكرامة”، بقيادة اللواء خليفة حفتر، كان حضور اللون المدخلي في قواته ظاهرا للعيان، على مستوى القيادات والمنتسبين. ففي مدينة بنغازي ظهرت “كتيبة التوحيد السلفية”، بقيادة عز الدين الترهوني، و”الكتيبة السلفية”، ويقودها السلفي المدخلي المعروف أشرف الميار، وقامت الكتيبتان بدور رئيس في محاربة قوات “مجلس شورى بنغازي بنغازي”. وإلى جانب الكتيبتين المذكوتين، تولت الشخصيات المدخلية مواقع قيادية متقدمة في عملية “الكرامة”، على غرار آمر المحاور محمود الورفلي المطلوب من محكمة الجنايات الدولية والمورط في تصفية مئات الأشخاص بحسب أشرطة الفيديو المسربة على شبكات التواصل الاجتماعي، فيما تشير عديد التقارير إلى أن التيار يمتلك تأثيرا كبيرا على عبد الرازق الناظوري، الحاكم العسكري درنة – بن جواد، والقيادي الكبير في عملية “الكرامة”.

وفي الجنوب، تعد “كتيبة سبل السلام”، الموالية لعملية “الكرامة” وأقوى الكتائب تسليحا في الكفرة، من أبرز مظاهر الاختراق المدخلي للكتائب المسلحة في المنطقة. وتشير معظم التقارير إلى مسؤوليتها عن نبش قبر الشيخ المهدي السنوسي في زاوية التاج. أما في الكتائب والتشكيلات الأمنية والعسكرية المحسوبة على حكومة الوفاق، فيشير التقرير المعد لصالح جهاز المخابرات الليبي، المذكور سابقا، إلى أن للتيار تأثير على عدد من منتسبي “قوة الردع الخاصة”، التابعة لداخلية الوفاق، رغم توازن أدائها، عموما. ويذكر التقرير أن القيادي، ذي النفوذ الكبير في القوة، أيمن الساعدي يتزعم مجموعة من المداخة، مؤكدة أن القوة شنت حملة اعتقالات ضد أنصار “مجلس شورى ثوار بنغازي” المهجرين إلى طرابلس، بالتزامن مع الفتوى التي أصدرها ربيع المدخلي بوجوب القتال إلى جانب قوات “الكرامة” في بنغازي، والتي أكد فيها أن “على السلفيين في ليبيا النصرة لدين الله تعالى وحمايته من الإخوان المسلمين وغيرهم. فالإخوان المسلمون أخطر الفرق على الإسلام، وهم من أكذب الفرق بعد الروافض… وإذا هجم الإخوان على بنغازي، فعلى السلفيين أن يلتفوا لصد عدوانهم ولا يمكنوهم من بنغازي”[2].

وفي نفس السياق تشير أصابع الاتهام إلى مسؤولية أطراف مدخلية عن خطف واعتقال وتصفية عدد من المشائخ المحسوبين على تيار المفتي الصادق الغرياني، بينهم الشيخ نادر العمراني، عضو مجلس البحوث والدراسات الشرعية بدار الإفتاء الليبية، وعضو رابطة علماء المسلمين، ونائب رئيس رابطة علماء المغرب العربي. أما في المنطقة الغربية، فقد لعب السلفيون المداخلة من منتسبي بعض الكتائب في صرمان وصبراتة أدوارا مختلفة في الاشتباكات التي عرفتها المدينتان، السنة المنقضية، والتي أدت إلى عمليات تهجير وحرق ممتلكات طالت عائلات محسوبة على تيار فبراير.

فتاوى مثيرة

عرفت المجتمع الليبي، عبر تاريخه، بقدر عال من التسامح “السلم الديني”، حيث تتعايش فيه الأغلبية السنية المالكية والأقلية الإباضية، وتستقطب الطرق الصوفية عددا لابأس به من الأتباع والمريدين. ولم يسجل التاريخ الحديث أي صدام بين مختلف المكونات، حيث ينتشر المذهب الأباضي في المدن الأمازيغية بجبل نفوسة وزوارة ومناطق محدودة من الجنوب، ويعم المذهب المالكي بقية البلاد، غير أن الصورة بدأت في التغير بعد تمدد السلفية المدخلية، حيث تعرضت الأضرحة والزوايا الصوفية للتفجير والنبش في أكثر من مكان، كما أطلقت فتاوى تكفر أطيافا من المجتمع، على غرار الفتوى الصادرة عن الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية التابعة للحكومة المؤقتة (حكومة المنطقة الشرقية الواقعة تحت سيطرة قوات حفتر)، والتي اعتبرت أن “الإباضية فرقة منحرفة ضالة، وهم من الباطنية الخوارج، وعندهم عقائد كفرية، كعقيدتهم بأن القرآن مخلوق وعقيدتهم في إنكار الرؤية، فلا يُصلّى خلفهم”[3]. وهي الفتوى التي لقيت استنكارا وتنديدا من طرف المجلس الرئاسي ودار الإفتاء ونشطاء حقوق الإنسان وعديد السياسيين. وتتمثل خطورة الفتوى في استهدافها طيفا من المجتمع الليبي، دينيا (الإباضية)، واثنيا (الأمازيغ).

لم يعتمد التيار السلفي المدخلي على أدوات ومروجين محليين، فحسب، بل استعان بعدد من الدعاة الأجانب الذين يقومون بزيارات دورية للخطابة وإلقاء الدروس بمساجد المنطقة الشرقية. ففي السنة المنقضية أثار الداعية السلفي السعودي أسامة العتيبي جدلا كبيرا، حين زار المنطقة الشرقية بدعوة من “القيادة العامة للقوات المسلحة”، التابعة لخليفة حفتر، ولقي احتفاء كبيرا في المساجد ووسائل الإعلام الساندة لعملية “الكرامة”. وهاجم العتيبي في خطبه ولقاءاته، بشراسة، من وصفهم بـ”العلمانيين والإخوان والخوارج والصوفية”، كما أشاد بمصادرة المصالح الأمنية بمدينة المرج شحنة من الكتب، بينهما روايات نجيب محفوظ وباولو كويلو ومؤلفات فريديريك نيتشته ومجموعة من كتب الفكر الإسلامي المعاصر، بدعوى نشرها “الإباحية والكفر وأفكار الإخوان المسلمين”.

خاتمة

رغم أن المعطى العقائدي والديني، في ليبيا، ظل ردحا طويلا من الزمن عامل توحيد وسلم ومقاومة، ورغم الحساسية المفرطة التي وسمت رد الفعل الاجتماعي الليبي تجاه أي تدخل خارجي، منذ القدم، فقد وجد التيار السلفي المدخلي منافذ للتمدد في أكثر من منطقة وفي أكثر من قطاع، واستطاع الانتقال من طور الترويج والدعاية إلى طور القوة المسلحة والتأثير في مجريات أحداث المشهد المتخم بالصراعات. وفي خضم ما يجري، يجد المراقب أكثر من داع لوضع نقاط استفهام كبرى حول الظاهرة وعلاقتها بالسياقات الإقليمية وبالترتيبات الجارية في أكثر من بلد من بلدان الربيع العربي.

—————————————————————————————————————-

خليفة على الحداد         

عن مركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى