الفكر الأيديولوجي والصراعات الإقليمية

أهل البيت في ليبيا 

ما يحدث من صراع بين دول الخليج وبمساهمة أمريكية ومصرية لا يعدوا أن يكون صراع أيديولوجي (سني سعودي / دكتاتوري قومي – شيعي) من أجل حيز السبق على زعامة المنطقة، فأمريكا والسعودية يهمها كثيراً رص الصفوف أمام إيران، والسعودية ومصر والإمارات يقلقها كثيرا إحتمال تجدد العنف بداخلها بسبب التضييق على الحريات العامة وتنامي المعارضة السياسية والمسلحة في كل منها، وسياسة الحكم المصري تنبئ بأن مصر أصبحت قنبلة موقوته ستنفجر في أي لحظة، فالثوات الشعبية تنتكس ولا تهزم، أما السعودية فقد قفر منها العديد من شيوخها إلى قطر بسبب تصرفات الحكومة الحالية.

حالة القلاقل العربية ضمن خارطة الصراعات الدولية يرصدها تقرير معهد السلام الدولي في سبتمبر الماضي والذي حدد مناطق العنف وترتيب الدول على سلم درجة الأمن والأمان، وكانت ستة دول عربية من عشرة على قائمة الدول الأكثر خطورة وهي العراق وسوريا واليمن والصومال والسودان وليبيا، وتشمل قائمة العشرة دول أخرى مثل روسيا ونيجيريا والباكستان وكوريا الشمالية.

ما يلاحظ على هذه القائمة أن جميعها عاشت أحقاب من الدكتاتورية العسكرية والإنقلابات، وأن البعض منها قد تم إجهاض حركات التغيير فيها ورجعت إلى قائمة الدول الإستبدادية مثل روسيا أو لازالت في مرحلة مخاض عسير مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن، كما يلاحظ أن معظمها من الدول الإسلامية التي تعاني من تعاظم الصراع وإنتشار المجموعات المسلحة.

من الملاحظ كذلك أن هذه الدول في معظمها تنشد التغيير من الواقع المرير إلا أن القوى الداخلية من مجموعات مسلحة أيديولوجية وقومية وجهوية تعدم الوسيلة ولا تتفق على أسلوب واحد يقوي من عزمها بل تناقض بعضها البعض في فوضى عارمة وهو ما يعزز نظرية المؤامرة كما أن الحكومات الداعمة لهذه المجموعات ليست لها رؤية موحدة وهو ما نراه من تفاقم الصراع بين دول الخليج الفارسي مثل قطر والسعودية والإمارات وإيران.

هذه الأزمة التي أصبحت جلية واضحة بعد بروز الثورات في شمال أفريقيا والشرق الأوسط لم تواجه دول شرق أوروبا أوضاعا مشابهة لها في نهاية الثمانينات بعد التغيير الكبير من الحكم الشيوعي إلى أنظمة ديموقراطية حرة، ومنها ما أصبح من الدول الناجحة مثل بولندا وتشيك والمجر،في حين أن رومانيا وقعت في مخالب الثورة المضادة من جديد ولا يختلف وضعها كثيرا عن الوضع الروسي.

لا شك أن التحول السلمي لثورات شرق أوروبا كان مرده إلى تطور الفكر السياسي الغربي الذي أفرز نمادج يحتدى بها وطريقا واضحا سلكته تلك الدول دون عناء كبير، في حين أن غياب النمودج عند الدول والشعوب العربية والإسلامية حال دون ذلك، ويرجع السبب إلى أن الفكر السياسي الإسلامي هو الأقل حظا في التطور على مدى التاريخ، فسيطرة الملوك والسلاطين والخلفاء بأمر الله وأنهم ظلال الله على الأرض وأن رضاهم من رضى الله ومخالفتهم فتنة، جعل المسلمون يحكمون لآربعة عشرة قرنا بأسلوب أمراء بني أمية.

وهناك الكثير من الأمثلة على سجن المعارضين فكريا لآنظمة الحكم والتنكيل بهم بل وتصفيتهم جسديا في الكثير من الأحيان، وبناء على ذلك درج الحكام على تفسير المواقف السياسية تبعا للتاريخ الإسلامي وليس تبعا للقرآن الكريم وفي ذلك إختلاف كبير،وقائمة ما يسمى بالداعمين للإرهاب الصادرة من المخابرات المصرية والإماراتية خير دليل على محاولة تصفية المعارضين فكريا للسياسات الدكتاتورية الوجلة من الطوفان القادم.

لا شك أن بروز ثلاثة مفكرين في القرن الماضي لهم بالغ الأثر على الفكر السياسي للدول الإسلامية بل والواقع المعاش للعلاقات بين الشعوب والدول الإسلامية، ومن خلالهم يمكن تفسير الكثير من الصراعات القائمة والتصادم بين الدول الإسلامية، أخرها صراع دول الخليج فيما بينها، وحروب العراق وسوريا واليمن، ولقد تم إستغلال أفكارهم بطريقة سيئة لدعم مصالح جهوية أو فئوية أو أيديولوجية دينية، وهؤلاء هم مالك بن نبي وسيد قطب وعلي شريعتي.

المفكرون الثلاثة تربوا في أسر دينية محافظة، وقضى جميعهم فترات في دول الغرب، وهم ليسوا من خريجي الكليات والمعاهد الدينية الرسمية، كما أنهم جميعا رفضوا الإنبهار بالفكر الغربي ولكن لا مانع لهم من تبني النظام الغربي ضمن القيم الإسلامية فمالك بن بني المهندس الذي إشتهر بكتبه في مشكلات الحضارة ولد في الجزائر ودرس في فرنسا وعمل بها لثلاثة عقود ثم إنتقل إلى مصر بعد تبني عبدالناصر لآفكاره المؤسسة للدولة الوطنية ومحاربة الإستعمار والقابلية للإستعمار ومحاربة التخلف الإجتماعي، في حين تم تعطيل أفكاره المنادية بالإنفتاح والديموقراطية وبذلك توالت الإنقلابات في معظم الدول العربية وتحولت معظمها إلى نظم دكتاتورية يتغير فيها الحاكم بالموت أو بإنقلاب عسكري آخر، ولا فرق في ذلك بين الممالك والجمهوريات، مثل مصر وسوريا وليبيا والسودان وتونس واليمن والسعودية والعراق والجزائر والإمارات.

وهذا الفكر للأسف ساهم في القضاء على قوى التغيير وتعطيل تيار الحاثه لما يقارب من ستون عاما من عمر الأمة، ولا يزال أقطاب الفكر القومجي يدودون عن إحضان الدولة الدكتاتورية القمعية رغم أنها منيت بخسائر كثيرة سوى للمشروع القومي أو الدولة الوطنية القمعية أو التأخر الإقتصادي ناهيك عن تدني مستوي المعيشة وكبت الحريات العامة.

سيد قطب صاحب تفسير في ظلال القرأن الكريم وكتاب معالم في الطريق عاش في مصر وإنظم إلى جماعة الإخوان المسلمين لسنوات عديدة، زار أمريكا ورفض الجانب الفكري في بنيانها، بالمقابل رفض النظام الدكتاتوري القائم في مصر ومعظم الدول العربية، وكان يرى أهمية خروج الناس لتدمير هذه النظم المسؤولة عن تخلف الأمة، إلا أنه لم يتوسع كثيرا في إيجاد البديل لهذه الهياكل القومجية المقيتة، وكان أن دفع روحه ثمناً لآفكاره حيث نفذ فيه حكم الإعدام من الحكومة المصرية في 29 أغسطس 1966م.

من نافلة القول أن سيد قطب كان وثيق الصلة بعبد الناصر وما يسمى بالضباط الأحرار في بداية إنقلاب 52 بل كان يعقد عليها أمالا كثيرة، ولكنه يئس منها بعد سنوات قليلة وعلم أن الدكتاتورية وحكم الفرد قد طغى على المشهد المصري فآثر مناهضة النظام على التماهي معه بعد سلب الحريات العامة ومنع الأحزاب ومصادرة أجهزة الإعلام، كما أنه على قرب من ملك السعودية والرئيس العراقي عبد السلام عارف اللذان توسطا له لإخلاء سبيله لكن دون جدوى.

ومما صرح به في كتاب معالم على الطريق مهاجما لسلطة عبدالناصر “هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية، وهي الحاكمية. إنها تسند الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضهم لبعض أرباباً، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى ولكن، في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله، فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله اعتداء على عباده”.

لم يكن تغييب سيد قطب إلا شظية لنهوض عشرات من الجماعات الإسلامية المعارضة للحكومات العربية، ولقد ساهم السادات في تمويل هذه الجماعات بغية القضاء على مراكز القوى الناصرية، ولكن إندلاع الحركات الجهادية التي مزجت بين الفكر السلفي الجهادي وفكر سيد قطب بإسم الصحوة الإسلامية كان أكبر من الحكومات ونطاق حدودها، وهذا الفكر أوجد التكفير والهجرة والقاعدة وأنصار الشريعة والتوحيد وأخيرا داعش، وقد يستمر تأسيس المجموعات الراديكالية المقاتلة لسنوات عديدة في غياب نمودج للحكم للدول الإسلامية بسبب تأخر الفكر السياسي الإسلامي عموما.

الدكتور علي شريعتي إنطلق من واقع إيران المتردئ تحث حكم الشاه، وإتسعت نظرياته لتشمل الدول الإسلامية، فلقد شارك في معظم الإنتفاضات كطالب ضد الشاه، ثم سافر إلى فرنسا وتحصل على درجة الدكتوراه وأصبح محاضرا في الجامعات الإيرانية في مجال الحضارات ومقارنة الأديان،منعه الشاه من الإشتراك في أي عمل سياسي،ولكنه واصل في إلقاء دروسه على مجموعات كثيرة من طلابه في شتى مدن إيران، كان ينشد التغيير والخروج من التبعية ونبذ الإستبداد والتخلف والإبتعاد عن المشاحنات المذهبية بين الشيعة والسنة حتى أصبح الأب الروحي الملهم للثورة الإيرانية، ولكنه تم إغتياله في شقته بلندن في 16 يونيو 1977م أي عامين قبل إنطلاق الثورة الإيرانية، للأسف أفكار على شريعتى تم إستغلالها من السلطة الدينية للثورة الإيرانية وبذلك أخرجت الثورة من مسارها لتصبح دولة ديموقراطية تحت مظلة دينية كثيرا ما يوعز إليها أنها فوق القانون، وأن شغلها الشاغل تصدير الثورة وتشييع الجماعات في الكثير من الدول الإسلامية.

إن الحرب الحالية ليست سياسية بين الدول بقدر أنها أيديولوجية بين أقطاب ثلاث، النهج القومي الدكتاتوري سوى كان جمهوري أو ملكي ويمثله مصر السيسي والسعودية والإمارات وموريتانيا والأردن والبحرين وإن إختلفت السياسات التكتيكية الأنية إلا أنها تجتمع على البقاء في السلطة وإبعاد شبه الثورات أو التغيير والمحافظة على القبضة الحديدية للدولة، وتصفية الخصوم بأي ثمن، مع هامش من الحريات قد يتسع وقد ينكمش تبعا للظروف المحلية.

القطب الثاني يتمثل في مجموعات التغيير الإسلامية، وإن كان معظمها وأكثرها تنظيما وسلمية وأكثرها شمولا تلك التي تنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين إلا أنها توجد مجموعات أخرى سلفية جهادية مقاتلة سنية ورغم الإختلاف العقائدي فإن قطاع كبير من التيار الوطني ينشد التغيير مع هذه المجموعات وإن إختلفت أساليبيهم، وهذا القطب ينشد التغيير والخروج من الدولة القمعية الدكتاتورية، ويمثل هذا التيار شعبيا ثوارات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد تنتقل الفكرة (رغم محاولة إجهاضها) إلى معظم الدول الإسلامية الدكتاتورية، مشكلة هذا التيار هو النضوج الفكري الذي لا يزال في بداياته وقد يأخذ وقتا قبل أن تتعاظم قواه كتيار فاعل للتغير نحو الأفضل.

القطب الثالث التيار الشيعي الممثل للثورة الإيرانية والذي على درجة كبيرة من التنظيم عقائديا وفكريا وعسكريا، وله منتمين في العراق واليمن وسوريا والبحرين والباكستان وأفغانستان ولبنان بل حتى في السعودية، وله نشاط كبير في أفريقيا ولقد برز كدولة ديموقراطية لها موسسات راسخة في معظم الإنتخابات الرئاسية الماضية، أخرها في شهر مايو الماضي، ويشكل هذا القطب/المذهب تحديا عقائديا وعسكريا على زعامة دول الشرق الأوسط، والذي يمكن له إستقطاب الحكومات الشمولية العربية عند كل خصام مع السعودية، كما حدث مع سيسي مصر منذ سنة، وأسد سوريا.

خلاصة القول أن المخاض العسير للتغيير قد يتعطل كثيرا بفعل حبك الدسائس وتصفية الخصوم، ولكنه لا شك أنه سيجد مجراه وإن طال الزمن، وستنتهي الدكتاتوريات والممالك والإمارات والسلاطين إلى غير رجعة، وينعثق الشعب من براتنها وإن طال الزمن.


بقلم: عيسى بغني

أستاذ جامعي ليبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى