عاشوراء وتقاطعُ الدين والسياسة، بالثقافة

أهل البيت في ليبيا

بالنّسبة لي، يُعتبر الإمام الحُسين أيقونة للحُريّة، والثورة ضدّ الظلم، ومثالا للنّضال الإيجابيّ، ومنارا للعدل والإصلاح؛ بإعلاء دور الجماهير في التغيير، بدل احتكار رجال الدين والسلطة، وأهل الحل والعقد، فتجلت ثورته الإنسانيّة، بالملحمة الحسينية :[إنْ لم يكنْ لكم دين، فكونوا أحرارا في دُنياكم].
.
ولكن هذا التقدير والتأسّي،يكونُ دونَ إضفاء قدسيّة على شخصه،أو عصمة لأفعاله،أو جعله محورا دينيّا،فقط لموقفنا الصّارم من الاستبداد الأمويّ،الذي اغتصب الدين والسلطة، نكاية في أتباعه، فأبوه صوت العدالة الإنسانية أحق وأولى.
.
وبغضّ النظر عن قضية التوسعة يوم عاشوراء السياسيّة،والتي هي من صنع أعداء الحسين السياسيين أو ما يعرف بالنواصب؛وذلك إظهارا للسرور بمقتله،وفرحا بموته،وتسنّنا بالاكتحال بدمه،وتكفل كالعادة أرباب الصراع الديني بتوظيف النصوص لشرعنة هذا الفعل أو ذاك.
.
إلا أنّ ذلك لا يمنع جعلَ يوم في العام، وليكن هذا اليوم، خاصٍّ بالعائلة فقط، بين الزوج وزوجه، والآباء وأبنائهم، عيدٌ عائلي يُعنى بهم ككيان واحد مُستقل،ويختص بهم، يتبادلون فيه الهدايا، ويوسّعونَ فيه عن خاطرهم، وأنفسهم، ويجتمعون على مائدة واحدة، يكونُ الشوق والمفاجأة روحه، فللهديةِ أثرٌ خالدٌ في النفوس، حتى صارت مفتاحا للقلب، وميثاقا للمحبة.
.
ولكن هذا الاحتفال يكون جزء من الثقافة لا الدين، يحتفل به كلّ ليبي، أيّا كان دينه ولونه وعرقه وجنسه، تماما كالكريسماس،الذي يحتفل به الغربيّ كجزء من ثقافته، المسيحيّ كاليهودي والمسلم بل حتى الملحد، على الرّغم من أنّ يوم 24 ديسمبر لا علاقة له بميلاد المسيح الحقيقي، ويوافق عيد الشمس الوثني.
.
فإدخال المناسبات الدينية الاسلاميّة، كرأس السنة الهجرية، ويوم المولد النبوي الشريف، والنصف من شعبان، وسواها – بغضّ النظر عن الخلاف الفقهي السوفسطائي حول مشروعية الاحتفال بها، هذه المُناسبات بتخللها الثقافة المجتمعيّة ضمانٌ لبقائها واستمرارها واندماجها مع حياة الفرد ومجتمعه، بل يسهل تطوير طقوسها وتطويع رسالتها، لأثر إيجابيّ، أو رسالة إصلاح، أو عمل في المجتمع، أو تعلق بقيمة إنسانية أو أخلاقية؛ لتكون مهرجانا للعمل والعلم والاحتفال، وفي نفس الوقت زيادة التعلم والتعلق والتعمق في الدين التي هي جزء منه.
.
فعندما تكتسب الاحتفالات الدينية بُعدا ثقافيا في المجتمع، تمتلك قوة كاسرة، لا تستطيع أعتى الديكتاتوريات نزعها أو إيقافها،فلا تملك إلا الإذعان لها، كما حدث في العراق أيام عبد الكريم قاسم، فرغمَ شيوعيّته المُفرطة، وعقليته السوفيتيه المحضة،إلا أنه استكانَ للجموع الشيعية وهي تنوح على مقتل الحسين في عاشوراء.
.
ولهذه الاحتفالات دور أيضا، في تماسك النسيج الاجتماعي، وتوحده، وانصهار لبناته، فالثقافة توحّد ما تقسّمه السياسة،وقد حاولت روسيا الاستفادة من ذلك، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، بإكثار أعيادها ومناسباتها الوطنية والثقافية والدينية، طمعا في الحفاظ على الوحدة السوفيتية، وكان الداهية السفاح روزفلت رئيس أمريكا الـ32، نجح في الاستفادة منها، وتوظيفها، عندما أقرّ عيد الشكر في أمريكا عيدا رسميّا سنة 1941، وقدّم موعده، لأسباب اقتصاديّة بحتة، دفعا للتعافي من”للكساد الاقتصاديّ الكبير”، وقتها.
.
وتستطيع وزراة الثقافة الليبية أن تستثمر هذه المُناسبات،وتقنّنها وتجعلها برنامجا احتفاليا متكاملا، دون مصاريف ولا عناء،لأنّها الاحتفال بها شعبيّ ذاتيّ، في الجوامع والساحات والزوايا، كشهر ربيع الأول؛ ليفرح الليبيون بدل حزنهم؛ لعل في مدح نبيّهم المُصطفى ما يغسل قلوبهم.
.
أحبائي، أهل “السّليقة بالقدّيد، والبليلة بالقمح” : احتفلوا، ولكن كونوا حُسينيّين، آمنوا بالتغيير، واسعوا إليه، ولا تنسوا قيمكم، وناضلو لأجلها، ومُوتوا في سبيلها، وردّدوا قوله دائما : “هيهات منّا الذلّة”.
.

09 / محرّم الحرام / 1436هـ
بقلم: المكي أحمد المستجير القطعاني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى