غضب السلفيين في ليبيا

الهجوم المأساوي على القنصلية الأميركية في بنغازي هو الأحدث في سلسلة الهجمات التي يشنّها السلفيون الذين يكثّفون نشاطهم في البلاد. ففي أواخر آب/أغسطس الماضي(2012م)، دمّرت مجموعات سلفية مسلّحة ومساجد وأضرحة صوفية في طرابلس ومصراتة وزليتن وفي وقت سابق هذا العام، اعتدى السلفيون على مقابر جنود بريطانيين قُتِلوا في الحرب العالمية الثانية، وهاجموا القنصلية التونسية بسبب معرض فنّي في العاصمة تونس اعتبروه مسيئاً، وفجّروا مكتباً تابعاً للصليب الأحمر الدولي، كما فجّروا عبوة ناسفة أمام مبنى القنصلية الأميركية في بنغازي. لكن هذه الهجمات ليست دليلاً على تنامي النفوذ السلفي في البلاد، بل إنها عوارض إعادة تكوين متشنِّجة للحركة للسلفية وانقسامها مابين الزاهدين الذين يُسلّمون بالواقع، والسلفيين المهتمّين بالسياسة، والمقاتلين والأهم من ذلك، تكشف عن بحث السلفيين المستميت عن دور في بلد هو أصلاً محافظ اجتماعياً لكنه رفض في قرار سليم اللاعبين السياسيين الديماغوجيين مفضِّلاً التكنوقراط عليهم.

في انتخابات 7 تموز/يوليو (2012م) لاختيار المؤتمر الوطني العام، أقصى الناخبون الليبيون التيار “السياسي” للسلفية الليبية ممثَّلاً بـ”حزب الوطن” (الذي كان عبد الحكيم بلحاج، الأمير السابق للجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، أبرز أعضائه)، و”تجمّع الأمة الوسط” الذي كان من بين مرشّحيه شخصيات من “الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة” مثل سامي السعدي وعبد الوهاب قايد، شقيق أبو يحيى الليبي، نائب تنظيم القاعدة الذي لقي مصرعه. ففي مؤشّر معبّر، فشل مرشّحو المجموعتين في الفوز ولو بمقعد واحد في البرلمان. وهكذا، إن السلفيين الجهاديين في ليبيا، الذين لايملكون برنامجاً سياسياً مثل “حزب النور” في مصر، ولا يُفيدون من الانقسام الحاد بين العلمانيين والإسلاميين الذي أتاح للسلفيين التونسيين تأدية دور المحرِّضين، يحاولون أن ينتزعوا مكاناً لهم متوسّلين العنف سبيلاً لتحقيق أهدافهم. وقد صبّوا جام غضبهم مؤخّراً على الإرث الصوفي الغني في البلاد (والذي يعتبره السلفيون وثنياً). لكن تاريخ الجهادية السلفية يمتدّ أبعد من ذلك، ويشمل مجموعة واسعة من الأسباب والأهداف.

تُجمِع روايات كثيرة على أن الدخول الأكثر وضوحاً للسلفيين إلى المشهد العام حصل في 7 حزيران/يونيو عندما قادت ميليشيا “أنصار الشريعة” (المتمركزة في درنة وبنغازي) موكباً من الآليات المسلّحة في ميدان التحرير في بنغازي، وطالبت بفرض الشريعة الإسلامية وقد أعلن زعيمها، الشيخ محمد الزهاوي(قتل في معارك بنغازي)، في مقابلة أُجريَت معه لاحقاً عبر قناة تلفزيونية محلية، أنه يحظّر المشاركة في انتخابات المؤتمر الوطني العام في 7 تموز/يوليو بحجّة أنها مناوئة للإسلام. “كتيبة أنصار الشريعة” هي التي تورّطت في البداية في الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي، مع أن المجموعة أصدرت بياناً على صفحتها على موقع فايسبوك نفت فيه ضلوعها في الهجوم وتحوم الشبهات أيضاً في الاعتداء حول مجموعة سرّية تعمل أكثر في الظل، وتُعرَف بـ”كتائب مجموعة الأسير عمر عبد الرحمن”، وهي كانت تبنّت المسؤولية عن الهجوم على مكتب الصليب الأحمر وتفجير عبوة ناسفة أمام مبنى القنصلية في وقت سابق هذا العام وقد أوردت تقارير أن الميليشيات السلفية اغتالت مسؤولين من حقبة القذافي في درنة، التي لطالما اعتُبِرَت معقلاً للمحافظية الإسلامية، واستولت على محطّات إذاعية، وأغلقت صالونات تجميل. وحدث هذا كله في خضم فراغ أمني متفاقِم حيث وقعت السلطة، في غياب شرطة وجيش محترفَين، في قبضة الميليشيات المحلية التي يُظهِر عدد كبير منها نزعة سلفية.

لقد أدان الرأي العام الليبي بشدّة وبقوة هذه الأساليب العنفية فقد تحرّكت القبائل والمجموعات النسائية والمجتمع الأهلي – وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي تنشط أكثر فأكثر في البلاد – لإدانة الهجمات الأخيرة على الصوفيين، ونظّموا تظاهرات ضد استعراضات القوّة السلفية. وسارت احتجاجات مضادّة في بنغازي رداً على التجمّع المسلّح للسلفيين في 7 حزيران/يونيو. وقد اعتبر عدد كبير من المشاركين في هذه الاحتجاجات، في مقابلات معهم عبر القنوات التلفزيونية المحلية، أن المجتمع الليبي إسلامي بما يكفي، وأنه ينبغي على “أنصار الشريعة” أن يتركوا سلاحهم ولباسهم الأفغاني في المنزل. وفي درنة، تصدّت المنظمات الأهلية الناشطة للحراك السلفي، بالتعاون مع القبائل المحلّية التي طردت كتيبة سلفية من المدينة وأحرقت حواجز التفتيش التي كانت قد أقامتها هناك وأدّت الهجمات الأخيرة على مواقع صوفية إلى اشتداد الغضب، ولا سيما عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تشهد ازدهاراً في ليبيا. ففي تعليقات على الفايسبوك، لفت ناشطون ليبيون إلى أن المفارقة هي أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) تفادى، خلال الثورة في العام 2011، قصفَ مسجد صوفي ذي مكانة مرموقة في زليتن، على الرغم من ورود معلومات عن وجود قاذفة صواريخ تابعة للنظام في داخله وقد علّق أحد الناشطين على صفحته على الفايسبوك قائلاً: “أغبياؤنا نفّذوا المهمّة بأنفسهم”.

واقع الحال هو أن هذا العنف يشير في الجزء الأكبر منه إلى حركة تبحث عن قضيّة؛ فبعدما فشل السلفيون الليبيون في إحداث وقع على المستوى المحلّي، وسّعوا نشاطهم خارج المسائل الاجتماعية التي شكّلت تقليدياً نطاق اهتمامهم، ويسعون الآن خلف القضايا الخارجية التي يعتقدون أنها سوف تؤجّج مشاعر الليبيين. يحتلّ النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني أولوية متقدِّمة في جدول أعمالهم؛ ثمة مزاعم بأن السلفيين الليبيين ينقلون أسلحة ومواد إلى غزة عن طريق سيناء. ففي أحد أشرطة الفيديو عن التجمّع السلفي في 7 حزيران/يونيو في بنغازي، يمكن سماع أحد المشاركين الذي كان راكباً في شاحنة صغيرة مجهّزة بمدفع مضاد للطائرات، وهو يصرخ: “هذه الأسلحة لـ[محاربة] الإسرائيليين”. ولاشك في أن سورية هي أيضاً من القضايا التي تحظى باهتمام كبير. في آب/أغسطس الماضي(2012م)، أعلنت سرايا راف الله السحاتي من بنغازي – التي اعتدت على أضرحة الجنود البريطانيين في طبرق – أنها سترسل متطوّعين إلى سورية.

وقد ظهر العداء لأميركا إلى الواجهة مؤخراً. فكتيبة عمر عبد الرحمن كانت الأكثر استهدافاً للمصالح الأميركية، وتبنّت مسؤولية وضع عبوة ناسفة أمام مبنى القنصلية الأميركية في بنغازي في وقت سابق هذا العام. وفي المرحلة التي سبقت الهجوم الأخير على القنصلية، شهدت الصفحات السلفية عبر مواقع التواصل الاجتماعي نقاشات مقلقة هاجمت الولايات المتحدة بسبب استخدامها ليبيا قاعدة لانطلاق الطائرات غير المأهولة. لطالما رأى عقائديون سلفيون-جهاديون بارزون في تنظيم القاعدة (ولاسيما أيمن الظواهري) في ليبيا موقعا مناسباً لنشاطهم، وحضّوا السلفيين الليبيين على الانتقام لمقتل أبو يحيى الليبي على يد الولايات المتحدة. وقد ذكر أحد التقارير أن الظواهري أرسل عبد الباسط عزوز، العضو المخضرم في تنظيم القاعدة الليبي، إلى درنة لإنشاء معقل للتنظيم هناك في أعقاب اندلاع الثورات في العام 2011. ويُظهِر شريط فيديو عبر الإنترنت (يعود على الأرجح إلى ربيع 2012)، عزوز يتحدّث علناً في تجمّع في المدينة.

إن أكثر مايثير القلق في الهجمات الأخيرة على مواقع صوفية هو ردّ فعل الحكومة الذي جمع مابين التساهل والتواطؤ الفعلي. والسبب الأساسي في هذه الازدواجية هو أن المجلس الوطني الانتقالي، أي الحكومة المؤقّتة، يعاني ضعفاً في الشرعية والموارد. فقد أُرغِم المجلس الذي يفتقر إلى جيش وشرطة فاعلَين، على استيعاب “الكتائب” الثورية المتعدّدة، عبر ضمّها إلى القوى الأمنية المؤقّتة، مثل اللجان الأمنية العليا وقوات درع ليبيا المسؤولة شكلياً أمام وزارة الداخلية ورئيس أركان الجيش على التوالي. وهذه الأجهزة سيّئة التدريب تضمّ جميعها من دون استثناء عدداً من الميليشيات السلفية، التي تستخدم التفويض الممنوح لها من الحكومة لفرض أعراف اجتماعية متشدّدة، والثأر من ضباط الاستخبارات في حقبة القذافي، والاعتداء على الصوفيين.

لكن التهديد الحقيقي ليس السلفية في حدّ ذاتها، بل محك الاختبار الذي شكّلته السلفية لشرعية الحكومة الجديدة وإمكاناتها، وكانت نتيجته فشل هذه الأخيرة في النهوض بمسؤولياتها. ففي أعقاب هدم الأضرحة والزوايا، وجّه عدد كبير من الليبيين أصابع الاتّهام إلى حكومة المجلس الوطني الانتقالي المشلولة، وإلى المؤتمر الوطني العام المنتخَب حديثاً، معتبرين أنهما المذنبان الحقيقيان في الإخفاق في نشر الأمن. وبعد الهجوم على القنصلية في بنغازي ومقتل السفير الأميركي، ازدادت الدعوات التي تطالب بمزيد من الاستقالات الحكومية وحتى بفرض القانون العرفي ومع أن المؤتمر الوطني العام طالب في البداية باستقالة العديد من قادة اللجان الأمنية في طرابلس بسبب تواطئهم في تدمير المعابد الصوفية، إلا أنه عدل عن موقفه ووجّه رسالة ثناء إلى هؤلاء القادة بعدما هدّدوا بتنفيذ إضراب عام. أما الحكومة فلا تتحرّك إلا بعد فوات الأوان، أو أن تحرّكها لا يكون فاعلاً.

بالنسبة إلى مواطني طرابلس وبنغازي والمدن الأخرى، كل مايجري هو تذكير صارخ ومأساوي بالمشاكل الملازِمة دائماً وأبداً للحكم السيّئ والفراغ الأمني. يجب التركيز أقل على التشدّد الإسلامي في حدّ ذاته والاهتمام أكثر ببناء حكم فاعل وذي تمثيل حقيقي لليبيين، وبإنشاء قوى أمنية محترفة وخاضعة إلى المساءلة.

بقلم: فريدريك ويري

باحث في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، تتركّز أبحاثه على الشؤون الأمنية في ليبيا والخليج. زار ليبيا مرّات عدّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى