المثقفون والخطاب الديني
من أبرز الظواهر في حياتنا الثقافية موقف الصدام بين كثير ممن يحسبون على النخب المثقفة والخطاب الديني بمختلف تياراته وتوجهاته سواء الرسمية أو غير الرسمية، المعتدلة أو المتطرفة، وبعيداً عن الخوض في الجذور التاريخية لهذا الصراع، وعدم إنكار وجود إشكالات في بعض جوانب الخطاب الديني، فإن موقف هذه النخب يحتاج إلى وقفة تفحص تحاول استيعاب هذه الظاهرة ومحاولة تفهمها وإدراك دوافعها وأسبابها.
إن كثير ممن يُقدَّمون في المجتمع على أنهم من رواد الفكر والثقافة يعانون من خلل في البنية الثقافية لديهم، تتمثل غالباً في تثقفهم بثقافة غريبة عن ثقافة المجتمع، لا تلامس قضاياه ولا تستطيع بآلياتها المبرمجة وفق ثقافة أخرى أن تعالج مشاكله وتتفهم احتياجاته، وهنا يجد المثقف نفسه في حالة انفصام عن الناس، ويصبح خطابه ونتاجه الفكري موجهاً فقط للنخبة المشابهة له في البناء الثقافي.
وهنا يجدر الإشارة إلى أن التثقف بثقافة غريبة عن المجتمع لا تستلزم النشأة في مجتمع آخر، بل يكفي أن تتم عملية التكوين والبناء الثقافي وفق هذه المناهج الغريبة التي صارت تدرس في مؤسساتنا الأكاديمية دون اعتبار للخصوصية الثقافية والملاءمة الفكرية، كما أن الإشارة واجبة أيضا إلى أن قطاعاً واسعاً من هذه الشريحة لا يتجاوز نشاطها اجترار الأفكار دون فهم أو استيعاب، ولا يتعدى مرماها وغايتها أن تحسب على نخبة الثقافة.
وإذا عدنا إلى أن هذه النخبة تعاني عزلة عن الناس، ولا تستطيع أن تصل بخطابها إليهم، فإنها تنزعج أيضاً من التأثير الواسع للخطاب الديني في المجتمع ووصوله إلى مختلف شرائحه وطبقاته بيسر وسهولة، مما جعله يمثل المنافس الوحيد في مجتمعاتنا لهذه الجماعات المثقفة.
وبالرغم من التحولات التي شهدتها الأمة في قرنها الأخيرة على صعيد بنائها الثقافي والفكري وتراجع دور مؤسسات ومدارس الإسلام العريقة في تحديد وجهته الثقافية على حساب جماعات التحديث والعصرنة التي كانت في مراكز السلطة أو قريبة منها، إلا أنها لم تستطع أن تقلل من تأثير الخطاب الديني المرتبط بإيمان الناس وعقائدهم، مما أوجد حالة من الصدام أو التدافع بين الخطابين، وكانت من أبرز ملاحم هذا الصدام تلك الحملات التي شنت على الخطاب الديني على أنه سبب تخلف الأمة وانحطاطها في محاولة لاستنساخ التجربة الغربية، وقد مثّل نظام أبورقيبة في تونس أعنف النماذج وأشدها صداماً، وإن لم يكن النظام القومي هو الآخر ألطف وأرحم، وكان للجميع نخب تُنظّر وتسوَق لهذا الصدام.
بفشل الحركة القومية وتراجعها على حساب التيار الإسلامي في المجتمع، بدأ نوع جديد من الصراع والتدافع لازال قائماً إلى اليوم، وحمل شعارات كثيرة من أهمها: التجديد والمعاصرة، وإخراج الدين من تحت وصاية العمامة، وإعادة قراءة التراث وتنقيته وغير ذلك مما لازلنا نطالع بعضاً من إفرازاته.
والحق أن هذه النخب التي حاولت معالجة الخطاب الديني لم تستطع أن تقدم هذا الخطاب بصورة يتقبلها الناس ويستسيغونها لعدة اعتبارات من أهمها: أن كثير منهم يتجهون لمعالجة الخطاب الديني بمناهج وآليات غريبة عن روح هذا الخطاب ولا تنسجم مع حقيقته وكنهه، كما الضعف المعرفي لدى هذه النخب فيما يتعلق بعلوم الإسلام أنتج تصورات مشوهة ومغلوطة وكانت مثار الجدل وأحياناً الاستهجان، إضافة إلى إقدام كثير منهم على علاج الخطاب الديني بقصد تطويعه لحساب قناعاتهم وتصوراتهم ولو أدى هذا إلى إفراغ الخطاب الديني من محتواه وإفقاده معناها.
ومع ذلك فإن هذا التدافع فتح المجال أمام الثقافة الإسلامية لتنمو وتتمدد وتتفاعل مع كثير من قضايا الفكر الإنسانية وتقدم معالجاتها لها وتخرج من حالة الركود والجمود التي عانت منها التي عانت منها حيناً من الزمن.
إن إصرار كثير من النخب المثقفة على الوقوف موقف الصدام من الخطاب الديني، وتعنتهم في محاولة معالجته بمناهج استشراقية وغربية لا تنسجم مع روحه وحقيقته لن يفاقم إلا من حالة التقوقع والانعزال التي يعانونها، وسيزيد من الفوضى والتيه الثقافي داخل المجتمع، ولن يولد إلا مسوخاً ثقافية منطوية ومنبوذة مجتمعياً، فالأولى بهم معالجة البناء الثقافي لديهم وإعادة تشكيل معارفهم بما يتناسب مع هوية الأمة وثقافتها، ثم لهم بعد ذلك أن يقدموا معالجاتهم للخطاب الديني بما يحقق النهضة والرقي للأمة والمجتمع، ويصوغوا خطابهم القادر على ملامسة الناس والتأثير فيهم بما يغني عن الحاجة إلى الصدام مع الخطاب الديني.