هدم المساجد وتدمير تراث الأمة جريمة نكراء

لماذا تستهدف المساجد ودور العبادة الاخرى في النزاعات المسلحة؟ تقول التقارير ان عدد المساجد التي استهدفتها “اسرائيل” في غزة منذ اندلاع العدوان بلغ 96 مسجدا. ومن المؤكد ان اعدادا كبيرة من المصلين استشهدوا نتيجة ذلك. وقد تكرر اقتحام المسجد الاقصى من قبل قوات الاحتلال تارة والمستوطنين تارة اخرى في الوقت الذي تستمر اعمال الحفر تحته تمهيدا لتدميره. هذا يعني ان دور العبادة لا تحظى بحصانة ولا تستطيع ايواء من يتعبد فيها. وليست المساجد وحدها هي المستهدفة في النزاعات المسلحة، بل ان الكنائس لا تسلم من الاعتداءات. ففي سوريا والعراق استهدفت الكنائس وهدم بعضها. ويفترض ان عالم اليوم الذي خاض حروبا كثيرة طوال القرن الماضي قد وضع مواثيق ملزمة للمتحاربين تضمن حماية دور العبادة والمستشفيات والملاجيء المخصصة للمدنيين. ويفترض كذلك وجود اجراءات رادعة ضد من ينتهك تلك المواثيق. ولكن لا يبدو الامر كذلك. فما يزال المسلحون (من جيوش نظامية ومجموعات مسلحة) يستهدفون المدنيين بدون خشية من احد. فالنسبة الكبرى من الفلسطينيين الذين استشهدوا في غزة مدنيون وليسوا عسكريين. بل ان القوات الاسرائيلية استهدفت ثمانية مواقع تابعة للامم المتحدة يفترض انها توفر الامن لمن يلجأ اليها من المدنيين. وقد اشارت مفوضة حقوق الانسان الى ارتكاب “اسرائيل” جرائم حرب، ولكن من يضمن ان قادتها سيواجهون العدالة بعد انتهاء العدوان؟ فما دام الامريكيون والبريطانيون يوفرون غطاء سياسيا للحرب على غزة، ويبررونها بانها “دفاع عن النفس” فليس هناك اي احتمال لمقاضاة مجرمي الحرب الاسرائيليين.

مع ذلك فالحديث عن المساجد وموقعها في النزاعات السياسية او المسلحة يثير الشجون. وباستعراض عدد من مناطق النزاع في السنوات الاخيرة سيتأكد ان المساجد اصبحت تمثل اهدافا للعديد من الجهات المتحاربة. فهي مصدر تهديد للانظمة الاستبدادية والظالمة لانها تجمع المصلين وتوفر فرصة لتعبئتهم ضد الظلم. فتسعى الانظمة لتفادي خطرها اما بتقنين نشاطاتها او بهدمها. ففي مصر مثلا أعلن وزير الأوقاف المصري في شهر يونيو الماضي عزمه إعادة النظر في قواعد صلاة الجمعة، وقصر الخطابة على الأزهريين، ومنع الخطابة بدون ترخيص، وإلزام الأئمة بخطبة موحدة. كل ذلك لاحتواء الخطاب الديني الذي ينطلق من دور العبادة ومنعه من تهديد نظام العسكر. وحتى في بريطانيا، فقد بدأت السلطات تمارس ضغوطا على المساجد بدعوى مكافحة التطرف، ووضعت بعضها على لائحة التحقيق، واغلقت الحسابات المصرفية لبعضها، ومنها مسجد “فنزبري بارك” الذي يدار من مجموعة معتدلة محسوبة على التيار الاخواني. وما استهداف مسجد “العسكريين” في سامراء في 2005 من قبل مجموعات مسلحة الا حلقة من مسلسل طويل يهدف لتمزيق الامة وضرب بعض مكوناتها بالبعض الآخر.

اما سياسة هدم المساجد الحالية فتعود الى ما قبل تسعين عاما، وذلك عندما سيطر الملك عبد العزيز على الحجاز. ففي العام 1924 سيطر عبد العزيز بن سعود وقواته على مكة المكرمة، وكان اول اعمالهم ازالة مقبرة (المعلى) التي تضم قبر السيدة خديجة زوجة الرسول وقبر عمه، أبي طالب.

وبعد عامين (1926) سيطر بن سعود على المدينة المنورة، وقام هو واتباعه بهدم مقبرة البقيع التي تضم قبور عدد من أهل بيت رسول الله ومنهم ابنته فاطمة الزهراء وحفيده الحسن بن علي. كما هدموا المساجد السبعة في المدينة: مسجد الفتح (او الاحزاب) ومسجد سلمان الفارسي ومسجد أبي بكر ومسجد عمر ومسجد فاطمة ومسجد علي ومسجد القبلتين، وحولوا بعضها الى صرافات الكترونية.

وتوقف هدم المساجد في الجزيرة العربية ردحا من الزمن، ولكنه استؤنف منذ قرابة عشرة اعوام. ففي شهر اغسطس 2002 قامت الجرافات بهدم مقام السيد علي العريضي (766-825م) وهو ابن الإمام جعفر الصادق سادس أئمة الطائفة الشيعية الإمامية والذي يعد من أبرز علماء المسلمين وفقهائهم. وهناك الآن اجازة بهدم قبر الصحابي رفاعة بن رافع الزرقي وهو ممن شهد بدراً وأحداً والخندق وبيعة الرضوان، والمسجد القريب منه المعروف باسم (الكاتبية). كل ذلك لم يحدث غضبا في نفوس الجماهير المسلمة برغم فداحة العمل. بينما ادى استهداف بعض مساجد كوسوفو على ايدي الصرب الى غضب اسلامي عارم احتجاجا على ممارسات الصرب. وهذا امر حسن لانه بعث رسالة واضحة للعالم بان المسلمين لن يسكتوا على تلك الجرائم. فما الذي حدث في السنوات الاخيرة ليتم هدم المساجد على ايدي حكومات محسوبة على المسلمين؟ أليس ذلك استضعافا واستخفافا بالامة التي يراد سحق تاريخها على ايدي بعض ابنائها؟ من يملك الحق لازالة التراث الاسلامي وحرمان الامة والانسانية من الاطلاع عليه؟ وهل هناك امة تلغي تاريخها بايدي ابنائها؟

في منتصف شهر مارس 2011 اجتاحت القوات السعودية البحرين لقمع ثورتها الشعبية، فكانت المساجد من اول اهدافها. حيث هدم اكثر من اربعين مسجدا في مناطق مختلفة. بعض هذه المساجد مهملة لا يرتادها الا القليلون، وبعضها الآخر مثل مسجد محمد البربغي، ذو قيمة تاريخية بني منذ مئات السنين، اي قبل السيطرة الخليفية على البحرين. فلماذا هذا الاستهداف؟ لماذا يصبح المسجد هدفا للجرافات؟ من الذي يملك حق اتخاذ قرار بهدم بيوت الله؟ فبرغم محاولات المواطنين اعادة بناء تلك المساجد، ترفض السلطات السماح بذلك، بل ان بعضها تكرر هدمه بعد اعادة بنائه من قبل المواطنين. المساجد استهدفت كذلك من قبل المجموعات المتطرفة في عدد من البلدان العربية والاسلامية. ولا شك ان العدو الاسرائيلي قد قرأ ملف المساجد في العالم الاسلامي ليتعرف على ردود الفعل المحتملة فيما لو اقدم على عمل شنيع كذلك العمل.

فليبيا شهدت استهدافا منظما لمساجدها واضرحة الاولياء فيها. وفي اكتوبر 2011 شهدت ثلاث مدن ليبية هي جنزور وطرابلس والعزيزية، إقدام العشرات من المقاتلين السلفيين على تفجير وتدمير بعض المساجد التي يتواجد بها قبور علماء المذهب المالكي وأضرحتهم، الذين عاشوا في ليبيا خلال القرنين السادس والسابع الهجريين.وفي 26 اكتوبر من ذلك العام تم تدمير مسجد سيدي رمضان بمدينة العزيزية بدعوى  أن المسجد به قبر ولي صالح وهذا “شرك بالله”.

وقام المتطرفون بهدم مسجد العالم المالكي سيدي حامد وقبره. كما شهدت مدينة جنزور اعتداء على أماكن عبادة، راح ضحيتها هذه المرة مسجد سيدي سالم، الذي يتواجد به ضريحه منذ أكثر من 600 سنة، وكانت وفود الطلبة وعلماء الصوفية تتوافد على المسجد المذكور، لأخذ علوم الشريعة على مذهب الإمام مالك وعقيدة الأشعري.  وتم نبش قبر كل من الشيخ العالم الشهيد أحمد الزوي وسيدي نصر بطرابلس، ودمر  مسجد سيدي علي القمودي بعد هدمه (عمر المسجد أكثر من 750عام ومسجل لدى منظمة اليونيسكو). وفجر المتطرفون ضريح السيد عبد الله المراكشي بمدينة الخمس والزاوية البرهانية المجاورة للضريح، ونبشوا قبر السيد محمد سالم الضفير الحسني بمدينة زليتن وسرقة جثته.

كما تعرضت جمهورية مالي لاعتداءات عديدة على مساجدها. ففي يوليو 2012  قامت جماعة “أنصار الدين” بعد سيطرتها على مدينة تمبكتو بهدم كامل لضريحين بجامع دجينغاريبر مستخدمين المجارف والمعاول. وهذا المسجد واحد من أكبر ثلاثة مساجد في تمبكتو أدرجتها منظمة اليونيسكو على قائمة التراث العالمي المهدد. وقامت هذه المجموعة بهدم سبعة أضرحة لأولياء من أصل 16 في تمبكتو وحطموا «الباب المقدس» للجامع ما أثار استنكاراً في مالي وفي الخارج.

أما سوريا فكان لها نصيبها الكبير من هدم تراثها المعماري المتمثل بمساجدها القديمة. ففي شهر مايو الماضية قامت “داعش” بتدمير ثلاثة مقامات دينية عائدة للشيوخ أحمد وعبد الرحمن و سلمان الشيخ نامس من شيوخ الطريقة الصوفية في قرية “كبيبة النامس” على طريق “تل براك – القامشلي” بريف محافظة الحسكة. واستهدفت جامع “أسامة بن زيد” في “المزة القديمة” بدمشق بمدافع الهاون، ما أدى لتضرر في قبة المسجد. وقامت بهدم مسجد فاطمة الزهراء بالرقة. وقبلها بعدة شهور هدمت “داعش” مقام الصحابي الجليل عمار بن ياسر(رض) في الرقة.

كما نسفت مسجد الصحابي حجر بن عدي وقبره بالقرب من دمشق. ونقل موقع “الجزيرة نت” نقل عن أبو ياسر أحد عناصر التنظيم الذين شاركوا في تدمير المسجد، أن التنظيم “يعمل على إقامة شرع اللـه وإزالة كل أشكال الشرك التي كانت موجودة في الرقة وريفها”.

ومنذ ان استولت منظمة “داعش” على شمال العراق بدأت معاول الهدم تطال المساجد بشكل متواصل. وكان الاعتداء على مسجد العسكريين بسامراء في 2005 ايذانا بالحملة المدمرة على بيوت الله في العراق. واستهدفت بالتدمير مرقد النبي يونس بالموصل بعد ان منعت اقامة الصلاة فيه .يذكر أن المرقد يعود بناؤه إلى عام 138هـ اي قبل حوالي 1300 عاما ويعد من معالم المحافظة الآثارية والتراثية قبل تفجيره .

وقد رمم المسجد في التسعينيات من القرن العشرين، في عهد الرئيس السابق صدام حسين  وكان مقصدًا للزوار من مختلف أنحاء العالم. وقامت بتفجير مرقد اخر يعود للنبي شيت وسط استياء شعبي واسع من سكان المدينة.

وقام مسلحو التنظيم ايضا بنسف مرقد العالم الصوفي الشيخ صالح وهو مزار ديني للالاف في مواسم الزيارة بين قريتي تل حمه وحفته خار بقضاء داقوق. وقامت عناصر “داعش” بنبش قبر “علي الصغير” تحت المنارة الحدباء، فيما فجروا جامع علي الهادي في مدينة الموصل. وفي مطلع هذا الاسبوع فجرت مقام السيدة زينب في قضاء سنجار غربي الموصل.

مسلسل هدم المساجد بدأته قوى “مسلمة” منذ قرابة القرن، وما تزال تمارس ذلك حتى الآن. وواصلت قوات الاحتلال الاسرائيلية مشوار الهدم كما سبق.

لماذا الصمت على سحق تراث الامة الذي هو ملك عام للمسلمين والانسانية؟ من المسؤول عن وقف ذلك العدوان العبثي الذي لا يمكن تفسيره الا انه عدوان على الاسلام ورسالة رسوله الكريم، والتراث الانساني الذي لا يملك شخص او مجموعة حق تدميره. سيظل المسجد مصدر تهديد للظلم والاستبداد والاحتلال، ومدرسة للفقه والاخلاق والقيم الانسانية، ومصدر اشعاع ثقافي وروحي للجنس البشري على اختلاف اديانه ومذاهبه السياسية، وملاذ للخائفين، وحلقة تواصل مع الحضارات والاديان والامم الاخرى. لا بد من وقف هذا العدوان السافر والحملة المدمرة على المساجد، فهي تراث الامة وتاريخها، والجميع مسؤولون عن حماية ذلك، فالسكوت عليه إقرار به وربما مشاركة فيه. فمن يريد الاشتراك في هدم بيوت الله؟.

—————————————————————————————————————

الکاتب: الدكتور سعيد الشهابي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى