السلفية والواقع السياسي

من التناقضات اللافتة في واقعنا المليء بها علاقة التغاضي الواضح والتساهل الغريب بين السلفية المدخلية والتيار العلماني وسكوت كل من الطرفين عمّا يفعله الآخر، ومعرفة السبب لا يحتاج إلى كبير عناء إذ يتفق كلاهما على عداوة تيار الإسلام السياسي، وعند كليهما الرغبة الملحّة في إلغائه والقضاء عليه.

ولا شك أن هذه الرغبة يمكن تفهمها عند التيار العلماني للتصادم في المرجعية الفكرية، إلا أنه لا يمكن تفهمها أو تفسيرها عند تيار السلفية المدخلية إلا من خلال تماهيه مع توجهات الدولة الداعمة له، وهذا التفسير بلا شك تفسير منطقي ومقبول، إلا أنّ الأمر في حقيقته يتجاوز هذا السبب إلى ما هو أبعد منه، حيث أنه يرجع –في نظري- إلى طبيعة العقلية الوهابية السلفية أساساً، حيث إنها تكونت ونشأت منذ بداياتها لتكون أداة للنظام السياسي ووسيلة توفر له الغطاء الشرعي وتُسخِّر له الخطاب الديني حتى يوطّد حكمه ويرسخ سلطته، ومعلوم تحالف محمد بن عبد الوهاب مؤسس الحركة السلفية مع محمد بن سعود زعيمها السياسي ومؤسس دولتها.

والمتتبع للحركة الوهابية في مختلف أطوارها وتأطيراتها الفكرية يجدها غالباً مطية للنظام السياسي وأداة يستغلها ليحقق بها مصالحه التي كان من بينها ضرب تيار الإسلام السياسي نفسه.

وبنظرة خاطفة لتاريخ الحركة الإسلامية في الخمسين عاماً الأخيرة نجد بصمات هذا الاستغلال بأيدي السلفية الوهابية واضحة جلية، فبعد الصحوة الإسلامية التي تلت نكسة عام سبعة وستين ضيقت الأنظمة القومية العسكرية على شبابها مما أتاح للسلفية الوهابية استغلالهم فيما عرف بتيار السلفية الجهادية الذي كان الغرض السياسي من دعمه خدمة المصالح الأمريكية بمحاربة الاتحاد السوفيتي آنذاك، ولا شكّ أن الخطاب الذي استخدم في هذا التأطير أدى إلى تسرّب كثير من الأفكار المتطرفة والعنيفة داخل الحركات الإسلامية والذي نتج عنه سلوكيات أساءت لها فيما بعد.

وباندلاع حرب الخليج ودخول القواعد الأمريكية للجزيرة العربية وسقوط الاتحاد السوفيتي صار التأطير الجهادي للسلفية الوهابية يمثل عبئاً على الوهابية الرسمية مما استلزم تأطيراً جديداً يحلّ محله، وهذا ما حدث فيما عرف بعد ذلك بالسلفية المدخلية التي ترتكز في خطابها على طاعة ولي الأمر والرضوخ له كأصل من أصول الدين يعد الخارج عنه مخالفاً لسديد المنهج وظاهر الحق.

بهذا التحول في التأطير المبني على الإرادة السياسية والملبي لمصلحة الحاكم تم عزل السلفية الجهادية وقطع الدعم عنها مما أدى إلى أمرين، أولهما: تطور السلفية الجهادية بسبب التنكر لها وعزلها إلى نماذج أشد عنفا وتطرفا تمثلت في القاعدة وداعش.

والثاني: حدوث مراجعات في طيف واسع من السلفية الجهادية تحولت بسببها إلى ما عرف بالسلفية الحركية التي تسعى إلى الممارسة السياسية والتي بقيت رواسب أدبيات السلفية الجهادية عالقة فيعقليتها وسلوكها.

إذاً لم تنتهِ السلفية الجهادية بل تطورت وولّدت تياراً آخر هو السلفية الحركية الذي اندفعت في كثير من البلدان خاصة بعد الربيع العربي إلى ميدان السياسة، الأمر الذي أدى إلى نشاط واسع من السلفية المدخلية تلبية لرغبة داعميها في مواجهة تيار الإسلام السياسي بمختلف أطيافه ووضعه في بوتقة واحدة، ورميه بالإرهاب والتطرف وتأليب الشارع عليه من خلال الخطاب الديني المركّز، كلّ هذا وسط مباركة وترحيب التيارات العلمانية بهذا الخطاب الديني الذي يحقق رغبتها في ضرب تيار الإسلام السياسي، كما أنّ كليهما لم يجد بُدَاً من دعم العسكر في إزاحة الإسلاميين بعد صعودهم الذي تلا الربيع العربي، وسبب هذا الدعم افتقارهما لأي مشروع سياسي باستثناء معاداة تيار الإسلام السياسي، لذلكفإن دورهما ينتهي بوصول العسكر للسلطة بعد أن كانا أحد أهم العوامل المنتجة للاستبداد، وهذا ماحدث في مصر، وربما قد يحدث في ليبيا إن استمر الطرفان في دعم مشروع عسكرة الدولة.

هذا فيما يخصّ الدور السياسي للسلفية المدخلية، وأما السلفية الحركية التي تعتبر أحدث النسخ للسلفية الوهابية –ويبدو أن الوهابية الرسمية اليوم تسعى لتأطير جديد بدت تظهر إرهاصاته على الساحة للمتابِع- فإن السلفية الحركية بانتمائها للفكر الوهابي القائم على الأُحادية وغير القادر على تصميم رؤية سياسية مستقلة والمعتاد على الحدّة في المواقف لم يستطع غالباً العمل مع غيره من تيارات الإسلام السياسي ضمن إطار مشترك يتسامى على الخلافات الثانوية المتعلقة بالآليات والوسائل، بل وجّه في كثير من الأحيان جهده السياسي للدعاية ضدّ تيار الإسلام السياسي في مواقف متعنّة وخطاب متشنج مما يدل بوضوح على افتقاره للمرونة والواقعية السياسية، وهذا يظهر جلياً في ممارسات الأحزاب السلفية في مصر وبقايا الجماعة الليبية المقاتلة في ليبيا ممن انخرطوا في العمل السياسي.

إن الفكر الوهابي بمختلف تأطيراته ظلَ حاملاً بذرة التطرف بدرجات متفاوتة متمثلة في انغلاقه على نفسه وأحاديته ورفضه للآخر مما يجعل التحالف معه من أجل تحقيق مصلحة سياسية آنية أو المغالبة به ضد طرف سياسي آخر مغامرةً سياسية خطيرة قد تولد في المجتمع بؤر للعنف والتطرف لا يمكن التخلص منها بسهولة.


الشيخ علي أبو زيد

مصراتة – ليبيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى