السعودية والزلزال الأخير

السعودية والزلزال الأخير.. هل سيحكم محمد بن سلمان مملكة موحّدة بعد الذي حدث؟ … 

ما يجري في منطقة الخليج لا يترك لأحد فرصة البقاء على الحياد مطلقا.. وقد حاولت جهدي تحاشي التطرق إلى هذه المسألة أولا لأن “ما نحن فيه من مصاب يكفينا ويغنينا عن الاهتمام بشؤون الغير”، وثانيا لأن شأن الخليج بشكل خاص في نظري لا يخضع لنفس معايير التحليل والفهم المألوفة، واختلافه “حدّ الشذوذ” عن القواعد يقتضي آليات فهم وأدوات توصيف تستوعب تعقيداته وتحيط بما يكتنفه من غموض وتمايز.

بإمكانك أن تبدأ من حيث شئت، لكن البدء من البدايات كشكل مألوف من أشكال معالجة الواقع يُوقعك في الكثير من السرد والإطناب.. ولضيق الحيّز والمجال فإن النهايات أو النتائج تبدو أيسر وأقل تشابكا..

ما يسمى بالزلزال السعودي أو حملة مكافحة الفساد في بلدٍ لا يُعرف إلا بالفساد!!.. وما قيل أنه تساقُطٌ لرؤوس يملؤها العصيان.. وما وُصِف بأنه بترٌ لأغصان أو فروع فاسدة من شجرة أسرة صالحة مباركة!!

التسويق جرى على قدم وساق منذ شهور طويلة لمحمد بن سلمان كما نعلم، وتمّ تقديمه كصاحب رؤية وأفكار ومشاريع تحديثية.. لكن لهذه الأمور متطلباتٌ أساسية لا بدّ منها وهي السلطة والمال والإعلام..

ولمّا كان حسم موضوع السلطة قد تمّ بِيَدَيْ والده في انقلاب عاصف أطاح بالعُرف الأسري في وراثة المُلك، فقد بقي أمام الشاب الجامح الغارق في حرب استنزاف في اليمن أن يهيّء لنفسه استلام العرش من والده بكل الوسائل مغتنما حياته قبل مماته، وقبل أن يجد نفسه مضطراً لمواجهة خصوم يفوقونه خبرة وقوة ونفوذا..

ما جرى ليلة الأحد الماضي سيبقى في ذاكرة السعوديين وكل المهتمّين بالشأن السياسي في أرض الحرمين.. وهو أمرٌ سيُدرَّسُ وستُضرَبُ به الأمثال على شراسة الصراع الضاري من أجل العرش..

لكن لا ينبغي أن يستسلم المرء إلى السذاجة ولا إلى البراءة ويحاول أن يقنع نفسه بأن ما حدث قد كان عبقرية من الشاب المتعطش للملك، أو من مقرّبيه.. فتدبير مؤامرة اعتقال كل ذلك العدد الكبير من رجال المال والإعلام والأمراء لم يكن من البساطة بمكان، حيث كان يحتاج غطاء سياسيا وقوة حماية ضاربة لاحتواء تداعياته ومفاعيله.. وإنني لا أخالف كل من صرّح أو لمّح بعلاقة ترامب وصهره كوشنر بالسيناريو الذي حدث.. وهما أحوج الناس إلى ذلك، ماليا وسياسيا وشخصيا.. فترامب ينتظر وفاء الملك ونجله بوعودهما “البليونية”.. ويتحيّن الفرصة للاقتصاص من الوليد بن طلال غريمه العتيد.. ويتلهّف لتوطيد علاقات أكثر صراحة ومتانة بين آل سعود وتل ابيب لضمان القدرة على كسر شوكة إيران أو شلّ أجنحتها الإقليمية في العراق ولبنان وسورية واليمن..
.. بن سلمان بحاجة إلى المال حتى يصبح مشروعه المسمى بــ “نيو-ام” ممكنا، حيث تكلفته 500 مليار دولار.. ويحتاج أيضا 450 مليار دولارا ثمنا لرضى ترامب وعائلته.. ويحتاج تمويل حرب في اليمن.. ودفع أثمان باهضة ثمنا للمناكفات والعداوات الإقليمية التي لا تنتهي.. لكن كل هذه الأموال لا يمكن أن تأتي من أموال تخصّه أو تخص أباه.. لذلك كان من الضروري أن يتم “جمعُها” عبر تجريد أمراء ورجال أعمال أثرياء من “أموال فاسدة نهبوها” فيشترون بها حريّتهم وربّما حياتهم!!

جمّد بن سلمان إلى حدّ اليوم 1700 حساب مصرفي بليوني أو ملياري!!! ولن يجرؤ أحد من أصحابها على الشكوى أو الاحتجاج أو التقاضي.. بكل بساطة لأنهم أسرة واحدة متمكنة في المال والنفوذ ويعلمون كيف كسبوا أموالهم.. ويعرفون مصادر ثرواتهم..وكلهم غارقون في الفساد متعدّد الأشكال والمظاهر..
..كان بن سلمان أيضا بحاجة إلى ملعب خالٍ من المنافسين السياسيين.. فالخلاص من الذين امتنعوا عن المبايعة ولم يُبدُوا الحماسة لمخالفة العرف العائلي والسطو على ولاية العهد لم يكن ليتمّ إلا باتهام الخصوم وشيطنتهم وتصويرهم في أبشع صورة..

.. كما كان بحاجة إلى الإعلام، فأطاح بصاحب “شبكة آي ار تي” صالح كامل ونجليه.. وبصاحب “شبكة ام بي سي” وليد الابراهيم.. وبصاحب قنوات “روتانا”..

فحاز بذلك السلطة والمال والإعلام..

لكن هل هذه نهاية المطاف؟ لا يمكن أن ينتهي الأمر هكذا بأي حال.. والساذجون وحدهم من يعتقدون ذلك..

ما لا يدركه محمد بن سلمان، -ويدركه ترامب- أن وحدة العائلة السعودية هي عمليا آخر ما بقي من عناصر وحدة المملكة.. فالتهميش الذي مُورس ضدّ المؤسسة الدينية ممثلة في أسرة آل الشيخ.. والاعتقالات التي حدثت مؤخرا ضد دعاة وعلماء كانوا محسوبين على النظام نفسه، وتفكيك هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونوايا بن سلمان المعلنة “علمنة” المملكة.. والارتباك الاقتصادي وتصاعد المشاكل الأمنية،،، كلها عناصر قوّضت هيبة الكيان الموحّد في الإقليم، وأصابته بنوع من التصدّع.. وأكاد أجزم أن المملكة السعودية قد تعرضت على مدى الشهور الأخيرة إلى عملية هدم متسارعة من الداخل.. هدمٌ متعمد.. استنزف الخزائن.. وارتهن الأرصدة السعودية بأمريكا.. وضرب مؤسسة آرامكو النفطية السيادية وأرغمها على الدخول في صفقات بيع غير مسبوق لأصولها.. لذلك لا يستغرب العقلاء والعارفون أن يجد بن سلمان نفسه ملكاً على جزء من تراب المملكة الحالي إذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه.. خصوصا وأن الدخول في حرب ضد إيران بالاشتراك مع إسرائيل أو تعطل محاولات إنقاذ ماء الوجه السعودي في اليمن سيعني تمرد المكوّن الشيعي السعودي غير الموالي أصلا لآل سعود بسبب التفاوت في توزيع الثروة والتنمية أو عدم وجود أي توزيع من الأصل..

أكاد أجزم أن السير الحالي للأمور في السعودية سوف يفضي إلى تقسيمها وسقوطها قبل عام 2030 الذي يبشر فيه بن سلمان شعبه بالرخاء والعلمنة والاستغناء عن النفط.. وإذا كان المتابعون يتوقعون أن تستمر وحدة المملكة إلى غاية شن الحرب ضد إيران.. فإنهم اليوم قد باتوا مقتنعين أنها قد تسقط قبل ذلك بكثير، بأيادي المغامرين والناقمين والمتضررين..

إن السعودية كيان عائلي ومن الطبيعي أن يتأثر بانقسام العائلة حول الرأي، فما بالك حين يتعلق الأمر بأموال وممتلكات ودماء وحقوق مغتصبة في العرش؟؟

السؤال الأخير المهم هو.. ما هو الوضع الأمثل للأمريكيين والإسرائيليين في ظل ارتهان الأرصدة والنفط؟ ألَــــــــن تتضاعف حصصهم وتزيد سيطرتهم في ظل الانقسام ونشأة كيانات صغيرة متسابقة لشراء الاعترافات والسلاح؟؟

لا مجال للمقارنة بين الأمرين.. وإن غدا لناظره قريب.


بقلم / محمد الامين محمد

رئيس تحرير موقع ايوان ليبيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى