بنغازي وعبث الكوازي (المولد النبوي)

أهل البيت في ليبيا 

مولاي صلى وسلم دائما ابــــــــدا
على حبيبك خير الخلق كُلهــــــــم
بهذه الأبيات الخالدة, فى ذاكرة المسلمين, تنطلق حناجر المؤمنين فى الزاوية الرفاعية بمناسبة المولد النبوى الشريف  وتستمر الإحتفالات, وتعم البهجة والسرور تلك المنطقة وما جاورها لعدة أيام. تزيّن الزاوية الرفاعية التى تقع فى الوسط مابين شارع عمر المختار والشابى, ((بجريد النخيل وسعفه)) يضاف اليه العديد من الأزهار والورود الجميلة وتُجسّم على هيئة اقواس بديعة الجمال.
ُترفع أعلام الزاوية الرفاعية وجريد النخيل على معظم المبانى المجاورة لتلك الزاوية تكتظ تلك المنطقة بالناس صغارا وكبارا تبلغ الاحتفالات ذروتها ليلة المولد وينشد المنشدون والمداحون بأصواتهم الرّخيمة مرددين روائع الأشعار فى مدح الرسول الأعظم عليه وآله الصلاة والسلام.
يارب بهم وبآلهـــــــــــــــــم   عَجِل بالخير وبالفـــــــــــــرج
أجل.. فيا ربى بهم وبآلهم عجّل بالخير وبالفرج آمين فبجوار الزّاوية الرفاعية تُباع فى تلك الليالى ((حلوة الزّاوية)) وهي صناعة بدائية لها مذاق خاص تلك الحلوة الصلدة كحجر الصّوان يقوم بائعها بتكسيرها وتقطيعها ((بشاقور حاد)) كما تباع الكاكوية المعجونة بالسكر يخرج الأطفال فى المساء ((بقناديلهم)) المصنوعة من الورق الملون وتتوسط القناديل شمعة مضيئة يجوبون بها الطرقات والحوارى القريبة من بيوتهم مرددين.
هذا قنديل او قنديــــــــــــــــــــــــــــل
يشعل في ظلمـات الليــــــــــــــــــــــل
كان بعض الصّبية يقومون بحرق إطارات السيارات القديمة وكانت هذه العادة تسمى ((الشوّاى)) يستمر الصغار إلى ساعات متأخرة من الليل متحلقين حول الإطارات المشتعله وفى صباح يوم المولد تجتمع الأسر على ((عصيدة المولد)) الغارقة فى السمن والعسل الوطني.
هكذا تقريبا كانت الإحتفالات بالمولد النبوى الشريف تلك الأيام قبل ان تأتى إلينا ثقافة جديدة من اقاصى آسيا وتحديدا من حدود الإتحاد السوفيتى السابق أيام تصفية الحسابات بين أمريكا وروسيا فى بلاد الأفغان, بعدها أصبح الإحتفال بالمولد و((عصيدة المولد)) بدعة, و(المصارين) و(عصبان الشمس), الذى يُعَد من خروف عيد الاضحى ظلت باقية كأنها سّنة حسنة.
معذرة كنت مستمتعا بصحبتكم فى ذكريات المولد النبوي الشريف ((وقناديله)) لكننا نحن أبناء جيل ((القناديل العطاشى المطفأة)) أُطفِأة ((قناديلنا)) مبكراً عندما خرجت من الزّاوية الرفاعية فى إتجاه سوق الحوت مررت من أمام مسجد رجب بن كاطو وهناك من الجانب الخلفي للمسجد محل تصوير فوتوغرافي لم أعد اذكر اسم صاحبه, لكننى أتذكر المكتب الذي يعلو هذا المحل أو بجواره هناك مكتب الأستاذ محمد حمى للخدمات القانونية.
الأستاذ محمد حمى علم من أعلام بلادنا كرس حياته ومماته عاشقا لحرية بلاده لم يهادن لم يساوم لم يتنازل عن مبادئه رغم كل الإغراءات ولم يخف بالرغم من أنه قد رأى بأم عينيه ما حدث لرفاقه ولأبناء وطنه من قتل وتعذيب كان بإمكانه أن ((يَلْبِدْ)) كما يفعل الصعاليك والجبناء وقت المواجهة تحدى الموت واقفا كنخلة باسقة لم يركع إلا لربه ومهر حياته ثمنا لكبريائه وشموخه وقرر أن يموت واقفاً كما يموت الرجال العِظام.
هكذا هكذا وإلا فلا لا
يقول محمد حسين القزيري أحد أصدقاء الأستاذ حمى عنه أنه كلما اختلفت مع محمد حمى يزداد إحترامك وتقديرك له… ويقول عنه أيضا بالرغم من أنه كان من معارضي النظام السابق (النظام الملكي) إلا أنه يِكِن احتراما وتقديرا للسيد ادريس السنوسي ملك البلاد السابق وهذا يؤكده أيضا أحد رفاق محمد حمى الأستاذ عثمان العالم في أحد مقالاته عن الأستاذ محمد حمى.
الأستاذ محمد حمى إضافة لوطنيته ورجولته موسوعة ثقافية ذات مستوى راق فعلاقته باللغة العربية تعود لطفولته وصباه حيث تتلمذ على يد والده أحد مشايخ الطرق الصوفية وكذلك فقهاء الكتاتيب فى مدينة بنغازى من هناك إنطلقت فصاحة لسانه وتمكنه من اللغة العربية كما تقول سيرته الذاتية التى يرويها عنه كلّ من عاصروه, نهل من الشعر الجاهلي مبكراً وكذلك من شعراء ما بعد العصر الجاهلي, والشعرالمعاصر فكثيراً ما كان يستشهد في حكاياته ومناظراته بالقرآن الكريم, وكذلك بأبيات وقصائد كاملة لفحول شعراء العرب لدعم حُجّته فعلاقته الوثيقة بالتراث العربي الإسلامي عرّفته على جميع أئمة المسلمين وعلى جميع المذاهب منذ بزوغ الدولة الإسلامية, ((الى عصر وصول الاستاذ أحمد الشريف أمينا عاما للدعوة الإسلامية )).
بلغ العنف عام 79م /80م مداه وتمت التصفية الجسدية فى أقبية المعتقلات وبدأت مهرجانات التصفية الجسدية جهارا نهارا, في المعتقلات والشوارع للعديد من الشخصيات في البلاد وخارجها فتمت تصفية الأستاذ عامرالدغيس بطرابلس وبدأت الملاحقة والتنكيل بقيادات حزب البعث وكل القوى الوطنية على إختلاف مشاربها والتى كانت تعارض سلميا ضيّق الخناق على الجميع وغرقت البلاد فى دوامة عنف من طرف واحد.
اكتشفت مؤسسة القذافي لحقوق الإنسان بعد أكثر من ثلاثة عقود أن هذا العنف قد تجاوز كل الحدود وكان بالإمكان عدم حدوثه لم تشفع للأستاذ حمى هذا الطود الشامخ ثقافته ولا تاريخه النضالي وكذلك مساهمته في التربية والتعليم التي قدمها لأبناء وطنه أيضا وكذلك تجاوزه الستين من عمره, فقد استدعي أكثر من مرة في مكاتب الإستخبارات لفترات متلاحقة وقريبة من بعضها يقول أحد الشهود الذي كان بالقرب منه يوم إعتقالة الأخير أن الاستاذ حمى قال قبل أن يضع رجله فى السيارة العسكرية التي جاءت لنقله إلى المعتقل قال الأستاذ لقد أصبحت ((العِيْشَهْ مرْمَدَهْ فى بلادنا)) ثم أضاف قائلاً “الموت مرَةً ولا حياة مُـرَه”.
ربيع عام 1980م كان هو خريف عمر الأستاذ محمد حمى فقد كانت المرة الأخيرة التي يخرج فيها من بيته على قدميه بشموخه وكبريائه المعتاد في الشهر الخامس من نفس العام أي بعد شهرين من اعتقاله رجع الأستاذ إلى بيته في صندوق ومنعت اسرته من فتح نعشه المغلق بإحكام ؟
شحبت ظلال فى الحيـــــــــــــاة   ولم يعد فى الكف كـــــــــأس
وبنات نفس الحــــــــــــــــر إنْ   يسعين ليس لهنّ همـــــــس
فأثر نداء الوعـــــــــــــــــى إنّ   نداءه للحر عـــــــــــــــرس
لا تخشــــــــى للطاغــــــــــوت   تقتيبا وفي جنبيك نفــــــــس
بهذه الأبيات أَبّنَ الأستاذ محمد حسين القزيرى صديقه الأستاذ محمد حمى ورثاه في صحيفة متواضعة إسمها ليبيا العنقاء منذ قرابة ثلاثة عقود مضت في مقالة أعتقد أن عنوانها كان “سلاما على روح محمد حمى”, رحمّ الله الأستاذين.
لقد أُزهقت روح الاستاذ محمد حمى وذهبت تشكو وتبث حُزنها الى الله من حين لآخر نسمع عن تعويضات تقوم بها أمانة العدل وبعض المؤسسات الخيرية لأهالى من تسميهم الدولة بالضحايا ويطلق عليهم الشعب الليبى اسم الشهداء.
إنّ ((شكاير)) الرّز والبصل و((الخرفان)) التي توزع عند إبلاغ بعض أهالي الضحايا بموت أبنائهم لو أضافواعليها خزائن منظمة الأوبك النفطيه لن تعوض ليبيا في أبنائها البررة الذين خطفهم الموت غيلة وغطرسة على مؤسسة القذافي الخيرية وأمانة العدل أن تكون أمينة وعادلة في هذه القضايا المحزنة والمخجلة بحقنا جميعا.
إنّ ما يعوض محمد حمى ويريحه في قبره وكذلك بقية الشهداء والمفقودين والمغتربين هو أن تتوقف هذه الممارسات الهمجية في حق الإنسان الليبى وللأبد حتى يشعر المواطن الليبى بأنه يعيش في وطنه وليس في معتقلات ((الشبردق)) التي سيّجها المستعمر الفاشي أو معسكرات غوانتانامو سيئة الصيت والتىي بسبب طيش وغطرسة آل بوش أوصلت أكبر وأغنى دولة في العالم إلى أخطر أزمة إقتصادية يتعرض لها الإقتصاد الأمريكي منذ أمد بعيد.
العدل أساس الملك أجل فالعدل أساس المُلك فبدون العدل والمساواة تحدث التجاوزات والجرائم بحق المواطن والوطن ويعم الرعب وتحدث الفجائع ويُقهر الإنسان وتنتهك آدميته ويمتليء قلبه حقداً وكُرهاً في سريرة نفسه وينتظر ساعة الإنتقام هناك كما يقول المثل الشعبى ((خراب مالطا)) لا قدر الله.
سأسوق هنا مثالا له علاقة بالعدل حدث أثناء الحرب العالمية الثانية بعد الغارات الشهيرة على العاصمة البريطانية من قبل سلاح الجو الألمانى والذى ألحق اضرارا ودمارا هائلين خرج السير وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطانى يتفقد الخراب الذي لحق بلندن وأثناء تفقده للعاصمة المدمرة هنا سأل صقر بريطانيا الغير وحيد مستشاريه ومرافقيه وقال لهم ما هي أخبار المحاكم والقضاء خلال هذه الأسابيع؟ فكانت الإجابة إن المحاكم والقضاء على خير ما يرام كأنه في أيام السلم, ثم سأل سؤال آخر ما هي أخبار المدارس والتعليم الإبتدائي بالذات, فكانت الإجابة إن التعليم الإبتدائي مستمر ولم يتوقف هنا أشعل وينستون تشرشل ((سيجاره الشهير)) وقال لمستشاريه ومرافقيه عبارته الشهيرة “سننتصر لا محالة”, وبالفعل انتصرت بريطانيا بالعدل والعلم على النازية والفاشية معا فما أحوجنا جميعا للعدل والمساواة والتعليم.
آه .. وآه أفلت
اللســــــان
وَبُحْتُ بالأشجان
كنت أرغب فى إصطحابكم معي إلى سوق الحوت لكن ((حوت القرش)) الشرس الذي افترس وطننا وأبنائه قد ضيّع مني بوصلتي ولم أعد أعرف من أين أدخل إلى منطقة سوق الحوت ؟ آملا أن أهتدي إليها خلال الأسابيع المقبلة.
سنتواصل فى الأسابيع القادمه إنشاء الله تعالى. ودمتم ودام الوطن بخير…

بقلم:فتح الله عمران ابزيو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى