في القضية الفلسطينية

اهل البيت في ليبيا 

هناك فهم ساذج يتناقل بين الناس إن القضية الفلسطينية تعيق تنمية الدول المؤيدة لها والدول الرافضة للتطبيع مع الكيان الصهيوني،هذا الفهم ناتج بالأساس إلى أكثر من سبب وعامل.

العامل الأول: هو البناء على التجزئة العربية على إنها دول نهائية وان كل دولة قادرة على البناء بذاتها،ويقود هذا الأمر بالنتيجة إلى تحميل فشل هذه الكيانات إلى الأنظمة ذاتها وبالتالي تصبح أحقية الثورات دائمة ضرورة وحق للناس لتحسين أوضاعهم الاقتصادية التي يحركها فشل هذه الدول،وبالتالي يصبح البحث عن أسباب لهذه المشكلة هل هي في الدكتاتورية،هل هي في الدين وعدم الولوج للعلمانية وربطها جهلًا بالعلمانية الأوروبية بالرغم ان العلمانية الأوروبية جائت كنتيجة لتطور البرجوازية مقابل الكنيسة والاقطاع،أي نتيجة لتطور الاقتصاد والتحولات الاجتماعية التي جائت معه،وهذا أيضًا لم يأتي من فراغ بل من توفر شروط الدولة في أوروبا وثانياً بسبب توفر التراكم البدائي الذي جاء من خلال اكتشاف الامريكيتين ونهبها، واقتصاد العبيد،ومع وصول هولندا وبريطانيا لشرق آسيا والهند.

وأن يقال وفقاً لهذا السياق – وهو محل المقال – بسبب القضية الفلسطينية،بالرغم ان هناك دول أفريقية فهي إن لم تكن مطبعة مع الكيان الصهيوني فهي على الأقل ليست معادية ومع ذلك تعاني ذات الفشل العربي.

بهذه الاعتبارات السابقة،نفصل بين فلسطين وبين قضايانا فنحن عندما نناصر فلسطين عند هؤلاء البعض،نتيجة فقط لمسؤولية إسلامية تجاه القدس مثلا أو لكون نعتبرها انها بلد عربي ومسألة وجدانية فقط مثلها مثل سبتة ومليلة أو إقليم اسكندرون،فكلها لا تستحق منا هذه التضحية لأنها مختصة بكل إقليم عربي على حدة وأن فلسطين مثل كل هؤلاء لا تعبرعن قضية استعمارية مرتبطة بنا بل مجرد مشاكل حدودية قديمة،بالتالي ليس من الحكمة أن ندخل في حرب مع الغرب وصراع من أجل هذه المشاكل.

يقودنا هذا للعامل الثاني وهو ما يتم ترويجه بشكل دائم إن أمريكا خادمة الكيان الصهيوني وليس العكس ، بالتالي إننا بمعاداتنا للكيان الصهيوني فأننا نعاني حربا من قبل الغرب كله خصوصاً وإن الأمر عند هؤلاء ان العالم كله يدور حول الكيان الصهيوني واليهود وهم من يحركون العالم.

في الرد على هذا نفصل كل نقطة وننطلق من النقطة الأخيرة،فالكيان الصهيوني خلق بعد قرن ونصف من تأسيس الولايات المتحدة وبعد قرون من نشأة بريطانيا وفرنسا والأمم الأوروبية الأخرى التي ورثتها امبراطوريات لاحقة في منتصف القرن التاسع عشر كألمانيا وإيطاليا.

فالكيان الصهيوني إذن جاء لاحقًا على نشأة هذه الامبراطوريات،جاء لاحقاً على نشوء المستعمرات،والفترة الاستعمارية، تحصل على القنبلة النووية من فرنسا، نظير خدماته التي قدمها لها في حرب 56،وانشأته بريطانيا،ثم دعمت أمريكا وجوده وسلَّحته وجعلت له تفوق نوعي في السلاح على بقية كيانات المنطقة،خدمة لمشروعها في الهيمنة على العالم الثالث،أو دول الأطراف بالأحرى وفي الحالة الصهيونية تحديدًا هو للهيمنة على البلدان العربية.

هنا يجب فهم حقيقة اقتصادية وليست مؤامراتية تدور في الخفاء تحت الأرض كما يصورها البعض،في إن الاقتصاد في العالم حلقة واحدة كونية،فالبرجوازي الأوروبي والأمريكي لا يراكم أمواله من خلال سرقة فائض جهد العامل الغربي فحسب،بل تحديدًا ورئيسياً من خلال مراكمة ونهب دول الأطراف في العالم في قارات أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية الجنوبية والوسطى، من الهيمنة على أسواقه وموارده،حيث حلقة الدورة الإنتاجية لا تأتي إلاَّ من خلال هذا الخارج أي دول الأطراف التي منها بلداننا،وهذا لا يتأتى إلاَّ من خلال تجويف اقتصادهم واضعاف وإلغاء شروط بناء الدولة وهذا هو مايمكن أن نسميه علمياً بقانون الهيمنة.

أي إن منع بناء السوق الكبيرة والتي تخلق شرط التطور الإنتاجي يحتاج لخلق حالة التجزئة،ومنع فرض الحمائية داخل هذا السوق الكبير المفترض وجوده،والتي تفيد تطور الإنتاج المحلي لدول المستعمرات السابقة بدون منافسة تعيق هذا الإنتاج المحلي،وفي نفس الوقت تلغي الهيمنة على اسواقهم،يحتاج أيضاً لخلق حالة التجزئة ومنع الوحدة،أيضًا منع تطبيق هذه الحمائية لاحقًا يعني منع إيجاد قوة بشرية وجغرافية ضخمة توفر شروط الردع والدفاع ضد فرض الغاء هذه الحمائية من قبل الغرب.

كذلك منع فرض شروط هذه الدول في الغاء الفارق الضخم بين أسعار المواد الأولية التي تملكها دول الأطراف والكيانات الكسيحة من دول المستعمرات السابقة ، كالكاكاو والبن والنحاس والنفط والغاز والفوسفات والقطن والكوبالت والمعادن الأخرى وباقي المواد الأولية ، وبالتالي اكتساب رساميل أخرى إضافية تفيد من قدرة خلق التنمية ودعم مشاريع التصنيع ، يحتاج من الغرب الحفاظ على حالة التجزئة.

كذلك حالة التجزئة لا تقدم سبب حقيقي وواضح للناس،لأن الناس تنبهر أولًا بفوارق الحضارات ، وتأثيرها الإنساني التي يأتي في سياق العولمة الغربية،وكذلك في جعل مسألة التطور بشكل مثالي بعيد عن المادية في مشكلة جينات وأعراق أو دين وثقافات،خصوصًا وانهم يشاهدون حالة الفساد فيربطونها بكل ماسبق،رغم ان الفساد هو نمط معاش يمارسونه هم أيضًا عامة الشعب، ومن يسمون أنفسهم بالتنويرين فيما بينهم ، فيظهر الأمر على انه اشكال ثقافي خاص،مع كون الفساد هو ظاهرة لنمط معاش ريعي ، لاجتماع قرابي،قبلي أو طائفي أو اثني،فالفساد هنا حلقة طبيعية للحصول على مكتسباتهم المعيشية واشباعهم الغريزي لافتقاد نمط المعاش المنتج والذي خلقه أو حافظ على ديمومته الغرب.

فهنا حتى وصف الفساد هو وصف غير علمي لبلداننا لأنه غير معرقل لعمل انتاجي لم يخلق أصلا ولم ينشأ بعد،كما ان التحولات الاجتماعية التي تأتي لاحقة على تغير الاقتصاد الريعي إلى منتج لم تحدث وبالتالي حافظت على المنافسة على الريع الذي يأتي من خلال ما يسميه الناس بالفساد،ويأتي أيضا عبر الحروب والثورات،إذ ان هذه القرابات -قبائل او عشائر او مناطق أو طوائف أو اثنيات – تصبح المعبر الحقيقي لهذا الاجتماع العربي أو الأفريقي اللذان هم نموذجان مختلفان عن النموذج الاسيوي واللاتيني مثلًا من حيث الاجتماع القرابي ، بالعموم وليس بالمطلق.

لذلك يخلق الحفاظ على حالة الهيمنة تناقض للتركيبة الاجتماعية ضد السلطة العدو الواضح والمنافس لهذه القرابات،فتجد القرابة السنية تثور في سوريا وقبائل الشرق ومصراتة والجبالية يثورون في ليبيا،وتجد إقليم كاتنغا بإثنياته المختلفة يثورون طلباً للانفصال عن نظام لومومبا التحرري في الكونغو، وقس على ذلك في معظم مناطق أفريقيا والوطن العربي.

التجزئة وحدها ليست كافية فكان هناك ضرورة من خلق الكيان الصهيوني ليحافظ على ديمومة هذه التجزئة مع كل صعود إقليمي عربي،كالحالة المصرية في عهد جمال عبد الناصر فضُرب مرتين،في الأولى فشل عام 1956 وفي الثانية نجح في عام 1967 لفارق القوى في العالم حينذاك،وهذه المسألة غاية في الأهمية، فمثلا مشروع مصدق في إيران بداية الخمسينات تم اجهاضه بإنقلاب امريكي فكانت الظروف الدولية واقتصاديات دول الأطراف ضعيفة عاملًا مساعدًا لنجاح الانقلاب،بينما الثورة الإسلامية في ايران بعد ذلك بقرابة الثلاثين عاماً،استطاعت ان تصمد رغم الحصار والعقوبات،بسبب التحولات العالمية على الاقتصاد وبداية صعود الصين واحتياجها لإيران في الثمانينات والتسعينات.

إذن وظيفة الكيان الصهيوني هي ردعية لأي صعود عربي يحاول خلق شروط الدولة الواحدة القادرة على إقامة التحولات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية ولا أكثر من دلالة لهذا الأمر من قول المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية، جون بايدن :

“لا يوجد سبب للاعتذار عن دعمنا لإسرائيل ، أنه أفضل استثمار قمنا به، إذا لم تكن هناك إسرائيل، كان على أمريكا خلق إسرائيل لحماية مصالحها في المنطقة”

بالتالي دور الكيان الصهيوني يتناقض مباشرةً مع مصالحنا ومع لقمة عيشنا،مع تطورنا الاقتصادي والاجتماعي، مع صحتنا وعلاجنا ، مع منافستنا في المجال الرياضي والثقافي والفني والإعلامي، مع تطور التقنية ، مع تعليمنا ومستقبلنا، ومن يحاول تصوير الأمر بغير ذلك فهو لايزال غارق في أوهامه،أو يريد تسويق التطبيع لأسباب تخصه حول مصالحه الاجتماعية المرتبطة بتحالفات قرابته المحلية او السلطة المطبعة لنظامه أو الأنظمة الخليجية التي تموله كفرد له دور وظيفي لها كحالة الإمارات أو قطر.

وعندما يأتي الذكر على إن كلا الدولتين لهما معيشة ورفاهية،فهو يمارس جهل عن عمد،في ضرب أمثلة بقبائل صغيرة لمجتمع محدود جداً بثروات هائلة، حتى بدون خلق الإنتاج وحتى مع انتشار الفساد فهم قادرين على الوصول للرفاهية القادمة من فتات الموارد الطبيعية والمُستغلة من الغرب وليس من أي اقتصاد انتاجي، أي أن المسألة ككل تدور حول استغلالهم لظروف مابعد الحرب العالمية الثانية وانتهاء ظروف الاستعمار السابق، نتيجة لانتصار السوفييت والخوف من التمدد الشيوعي الذي فرض تساهلاً غربياً لمنح الاستقلال لهذه الكيانات على شرط الحماية لسلطتها التابعة للغرب ذاته، والأمثلة العربية كثيرة.
أو بسبب الحاجة الأمريكية للمنافسة والسيطرة على هذه الموارد والأسواق دافعة بالامبراطوريات الاستعمارية الكبرى كبريطانيا نظير الدعم الأمريكي لبريطانيا مابعد الحرب، بتقديم تنازلات في عدد من هذه المستعمرات لمنحهم الاستقلال.

لذلك استفادت أنظمة الخليج من هذه التغيرات في العالم، بالإضافة هنا لوجود دول عربية مناهضة للهيمنة،فلم تخرج الامارات وقطر والسعودية من الهيمنة الكلية المطلقة على مواردهم النفطية مقابل عقود امتيازات محدودة لا توفر لهم شيء إلاَّ مع عمليات التأميم الضخمة التي قادتها ليبيا في مطلع السبعينات ورفع الأسعار،وكذلك الدول التقدمية الأخرى كالعراق والجزائر، وهذا معترف به حرفياً من قبل شركات النفط الغربية.

ثم استفادوا من المقاطعة العربية مع حرب 73 بعد مواقف ليبيا والعراق – فالسعودية تحديدا قطعت النفط بشكل جزئي وكانت رافضة للمقاطعة،وأضطرت لذلك على مضض، وكانت هي أول من عادت عن القطع بشكل أحادي وبدعم من السادات نفسه، رغم إن َّ الذين قطعوا النفط قطعوه لأجل مساعدة مصر ودعم جهودها العسكرية في هذه الحرب.

فالأمر كله بالنسبة للأنظمة الخليجية النفطية هنا كالموظف الذي يبلغ مايدور بين الموظفين من مساعي للاضراب لرفع المرتبات والمزايا لإدارة مؤسسته،بالتالي يكون بعيدًا عن العقوبات،فإن نجح مجهود الثوريين من الموظفين،كان قد كسب معهم هذه المزايا،وان لم ينجح فقد حافظ على وجوده في العمل من الطرد والعقوبات على سوء ماكان هو يناله أصلاً.

لذلك فأي مكسب لقطر وأبوظبي،أولا لأن ثرواتهم أضخم بما لا يقارن مع ليبيا أو الجزائر على سبيل المثال مع فارق عدد السكان المحدود لعدد من القبائل الصغيرة في حلا البلدتين،بالإضافة لاستفادة من الظروف الدولية والإقليمية ومواقف دول الإنتاج النفطي الأخرى من فنزويلا إلى ليبيا.

أخيرًا إن افترضنا صحَّة هذا الأمر الذي يقول إن تطورهم بسبب تشغيلهم لعقولهم وابتعادهم عن جبهة النضال التي يصفها جهلة التدوين ومراهقي الفيسبوك بالشعارات،فلماذا حال مصر المطبع سيء جداً بعد التطبيع بأربعين عاماً،بل وصل للحضيض أصلا بعد هذا التطبيع بالأرقام والاحصائيات الدولية المعتبرة ؟!

السودان طبَّعت مع الكيان بشكل غير علني منذ عهد النميري،عندما التقى بشارون وحرضه على القذافي ، وعندما شارك في ترحيل يهود اثيوبيا إلى الكيان الصهيوني ، فماذا لازال وضع السودان كارثياً ولماذا ثار الناس على النميري بعد ذلك !

ذات الشيء ينطبق على حالة الأردن بعد التطبيع، فلم يتغير حال هذا الكيان شيء البتة، وأيضًا نظام الحسن الثاني المغربي، وهذه معاناة المغاربة فهم من أولى المجتمعات الذين سمعنا عن هروبهم لأسبانيا عبر البحر وموتهم غرقاً في الطريق،حتى عندما كانت قوارب الموت تنطلق من ليبيا كان الطرف العربي الوحيد فيها بعد الأفارقة،هم المغاربة.

وهذه منظمة عرفات وعباس فلقد منحوا الغرب والكيان الصهيوني مايريدون فهل هم وصلوا للرفاهية،هل هم وصلوا لمكتسبات اقتصادية توفر لهم الحد الأدنى من المتطلبات المعيشية ؟! بل هم حصلوا على أرضهم،هل هم بالأساس حافظوا على ما اعتقدوا انهم حصلوا عليه من هذا الكيان الصهيوني.

إذن فلنتوقف عن جعل التطبيع مع الكيان الصهيوني هو لغة الواقع،بل هو منطق المتخاذلين والجهلة،منطق الافقار،منطق الرجعية والحفاظ على مكتسبات القبيلة والطائفة ، منطق اللادولة،منطق العشوائيات المصرية،والحروب الطائفية والقبلية, منطق فقداننا للأمن والغذاء والمستقبل والحياة بذاتها.


وايل ادريس

كاتب ومحلل سياسي ليبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى