المضمون الفكري في المظهر..السلفية الحديثة

أهل البيت في ليبيا

حينما انتشر الإسلام في ربوع الأرض لم يعمل على تغير أنماط حياة البشر في البلاد التي دان أهلها به، بل غير عقائدهم، وهذب بعض سلوكياتهم التي تتعارض مع سياق رسالة التوحيد لذلك احتفظت شعوب الأرض بعد إسلامها بأنماط حياتها وعاداتها وتقاليدها ولباسها.

فالمسلم الإندونيسي مثلا،لا زال يفتخر بزيه الشعبي المسمى “الباتيك” نسبة إلى فن الصباغة المعتمد في هذا الزي حتى يومنا هذا، حتى إن هذا الزي اعتمدته منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “اليونسكو” وأدرجته ضمن قائمة التراث العالمي، ورغم مرور قرون على إسلام إندونيسيا التي تعد الآن أكبر دول العالم الإسلامي، إلا أن لباسها وتقاليدها بقيت على ما هي عليه،وربما تلون الدين الإسلامي ببعض المظاهر الأندونيسية التي لا تتعارض معه.

ويرتدي الباكستانيون، رجالا ونساء ملابس وطنية مكونة من قطعتين تسميان عندهم “سلوار قميص” وحذاء خفيفا يدوي الصنع يعرف باسم الـ”كوسا”، ويحتفل الباكستانيون بأزيائهم التقليدية سنويا لأنها تعبر عن هويتهم، كما أن الباكستان من الشعوب القليلة التي احتفظت بهذا الزي حتى في بلاد الهجرة، وتدينهم لم ينل من أنماط حياتهم ونوع ملبسهم. وهكذا باقي ربوع الأرض، ما زال الزي الوطني بصمة للشعوب المختلفة يعرف بها، ولم يحدث أن وحد الإسلام أزياء الشعوب التي دانت به أو أساليب حياتهم إلا فيما ندر، ذلك أن القاعدة تقول بأن كل شيء مباح ما عدا ما حرم بنص، وما حرم بنص محدود جدا والأصل في الأشياء الإباحة، ولأن العقيدة تمس القلوب فلم تغير من القشور الكثير.

المذهب الإسلامي الرسمي في ليبيا هو المذهب المالكي،مع وجود محدود للمذهب الإباضي في بعض مناطق الغرب الليبي وفي العاصمة طرابلس في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، عند الدخول للمساجد للصلاة لا تجد شخصا واحدا من المصلين يربط يديه أثناء الصلاة، فكلهم يسبلون الأيادي ويقفون بخشوع وعزة أمام الخالق.

ويستوي المذهبان في ليبيا في قضية سبل اليدين أثناء الصلاة خلافا للمذاهب السنية الأخرى ومن الأمور المعتادة أن يقرأ الليبيون (وتقريبا كل الشمال الأفريقي ما عدا مصر) الفاتحة عن رواية ورش، فالآية الثالثة تقرأ “ملك يوم الدين” وليس كما هو معتاد في المشرق “مالك يوم الدين”، والأمر الثالث أن لا يؤمن عقب قراءة الفاتحة (أو لا يجهر بها)، والأمر الرابع عند إتمام الصلاة يسلم الإمام جهرا ناحية اليمين فيقول “السلام عليكم” وقد يلحقها سرا حين يلتفت ناحية اليسار وفي هذه الأمور الأربعة لا يختلف المذهب المالكي عن الإباضي، حتى إنك لا تميز بينهما أثناء تأديتهم للصلاة إلا في تكبيرة الإحرام، ففي حين يرفع المالكي يديه أثناء التكبيرة يكتفي الإباضي بتكبيرة الإحرام كمدخل للصلاة، ولم يكن هناك مظهر مميز للمصلين.

الآن، وبعد أكثر من ثلاثة عقود، اختلف الأمر في المساجد الليبية، لم نعد نرى سبل اليدين إلا عند كبار السن، وعدنا نسمع فقط “مالك يوم الدين”، وتهتز أركان المسجد من “آمين” المصلين، وأصبح الأمام في المساجد يلقي تحية الخروج من الصلاة على الجانبين جهرا وليس في ذلك بالتأكيد إثم، لكنه تغير حدث في عقود قليلة جرف ما عهده الناس في قرون طويلة.

وأصبحت المسافات بين أرجل المصلين تتناسب مع طول اللحية وقصر السروال،والعديد من المصلين يدخلون الصلاة بصورة مسرحية تتمثل فيها التقوى لكن اختفت فيها عفوية آبائنا وأجدادنا التي عهدناها في صبانا، وانتشرت مظاهر غريبة لم نعهدها في مساجد طفولتنا، فانتشرت لوحات خشبية أو زجاجية يضعها المصلي أمامه حتى يعزل نفسه عن المارة. ومن غرائب هذه الحواجز أني سمعت من أستاذ فاضل أن إمام المسجد الذي يصلي فيه يضع حاجزا بينه وبين المحراب عند الصلاة!!.

وكثر “الآمرون بالمعروف”، فقلما كان يستوقفك أحدهم قديما، لكن الآن لا تستغرب أن يقف لك احدهم بالباب ليحصي لك ما ارتكبت من أخطاء في صلاتك (!) التي كنت تؤديها قبل ميلاده،وكأن قدومه للمسجد ليس للصلاة ولكن لإحصاء أخطاء المصلين وتغير هندام المصلين،فالثوب النجدي والسراويل القصيرة واللحي غير المشذبة والمسواك أصبحت منظرا عاما يتميز به طائفة من مسلمي اليوم، وتغير لباس المرأة فأصبح للجلباب الأسود سطوة في السوق لا ينافسه فيها سلطان آخر موضات الأزياء في العالم.

ومن المفجع تفسير الأشياء عند هؤلاء الناس، فقد صليت ذات يوم مع زميل وكان يقبض يديه أثناء الصلاة، فسألته من باب الفضول لمَ لا يسبل يديه أثناء الصلاة أسوة بالمالكية، فأجابني: إن الإمام مالك كان يقبض يديه ولكن حين سجن وعذب شلت يده فأصبح غير قادر على قبضهما، فقلت له باستغراب شديد: هل كان المالكية يتبعون سنة الإمام مالك أم سنة النبي عليه صلوات الله عليه وآله؟!.

الخاتمة:

نستطيع أن نستخلص أن “الشكل” الذي يظهر عليه فئة من الناس في مجتمع ما ينبثق عن فكرة أو “مضمون”،وليس بالضرورة أن يكون المضمون الفكري مضمونا إنسانيا يحمل قيم الخير والعدالة، فالكثير من المضامين الفكرية تبتعد عن القيم الإنسانية،ولا يخلو فكر إنساني أو عقيدة من مضامين خطيرة عند إخراجها عن سياقها وممارسة الانتقائية في صياغاتها،وتفريغها من المشاعر الإنسانية التي تهذبها،وتاريخ الفكر الإنساني مملوء بالأمثلة التي تبين أن الأفكار هي الفتيل الذي يضرم النار ويلهب مشاعر الناس، وما كان للعنف أن ينتشر إلا بفعل المضمون الفكري الذي يحفز هذا العنف.

والعقيدة الإسلامية ليست استثناء،فهي تحتوي على النصوص العديدة التي إن أخرجت عن سياقها كانت مدمرة وللأسف،نجد أن ظاهرة العنف والتطرف في مجتمعاتنا أصبحت تتناسب مع الانتشار الواسع لهذه المظاهر،وكأن هذه المظاهر جرها انقياد هذه الفئة من المجتمع إلى بعض هذه الأفكار المدمرة دون تحفظ،بغض النظر عن سذاجة الفكرة التي انجروا إليها كالتي سقناها عن سبل اليدين في الصلاة، أو خطورتها كتكفير المجتمع ومحاربته.

وأخطر المضامين الفكرية هي تلك التي تتجرد من العواطف الإنسانية لحساب الفكرة، فيصبح إزهاق الأرواح البريئة أعظم قربة من إطعام الجوعى، ومقارعة المختلف بالسيف أعظم من “وجادلهم بالتي هي أحسن”، وسبي المخالفين والتمتع بنسائهم أفضل من “ادعو إلى سبيل ربك بالحسنى”.


بقلم: أحمد معيوف

كاتب ليبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى