السلفيون.. كارثة على الدين والدنيا
ليس سرا أن التيارات السلفية باتت في أغلبها عبئا ثقيلا على الإسلام وإفسادا للدين والدنيا عامة. ولا أتحدث هنا عن السلفية بما هي مدرسة فقهية محددة من بين المذاهب السنية الأربع المعروفة، أي المذهب الحنبلي وأتباعه.
ولا أتحدث أيضا عن التدين التلقائي الذي يغلب عليه السمت السلفي المحافظ، كما هو الحال في بعض دول الخليج العربي وحتى بلاد الشام. أقصد ذلك التيار الديني الذي يتسم بالتشدد الفكري والسياسي، ويأخذ تارة طابعا تكفيريا عنيفا، ويغدو تارة أخرى مجرد ألعوبة بيد أصحاب النفوذ والسلطة.
يركز هذا التيار على اختلاف تمظهراته على قراءة اختزالية للنصوص الدينية، ويولي عناية خاصة بالمظاهر الدينية الشكلية، من اطالة اللحية وتقصير القميص وفرض النقاب على النساء وعدم الاختلاط بهن.
في السلفيات الدينية نزوع عنيف يسوّغ التكفير وازهاق أرواح غير المسلمين ويستحل دماء المسلمين (على نحو ما نرى في تيار القاعدة وتفريعاته اللاحقة، من النصرة الى داعش الى أنصار الشريعة).
وهذا الصنف يجمع بين التطرّف في الفكر وفهم الدين وممارسة العنف في السياسة، بما يجعل أتباعه خطرا على استقرار المجتمعات وتشويها لصورة الاسلام الذي جعلوه عنوانا للعنف والارهاب واهراق دماء الأبرياء وتخريب العمران.
وعلى الجهة المقابلة تطالعنا سلفيات أخرى تبدو في ظاهرها بالغة التشدد الفكري والفقهي، لكنها شديدة الانصياع السياسي، تؤدي دورا شبيها بالإكليروس الديني في القرون الوسطى بأوروبا.
توكل لهولاء مهمة ترويج مقولات طاعة ولي الامر المطلقة وتحريم الخروج عليه، عبر النبش في المفاهيم الفقهية القديمة التي تقرن مفهوم الفتنة بالخروج على الحاكم. هكذا يغدو اي نوع من انواع المعارضة السياسية “خروجا” و”فتنة” و”ضلالا” يودي بصاحبه في النار في الآخرة ويستوجب السجن، ولم لا قطع الرقاب في الدنيا.
وتعتبر الوهابية التي نشأت في نجد قلب الصحراء العربية، مصدرا مباشرا أو غير مباشر للتيارات السلفية والمفارقة ان الوهابية التي قامت في أصلها على الخروج على العثمانيين الأتراك وتكفيرهم، حرمت الخروج لاحقا، بعد أن تحولت الى ايديولوجيا رسمية في خدمة الدولة.
إذ لا تجيز الوهابية أي نوع من المعارضة السياسية أو انتقاد الحاكم ولو كان مخففا، وتعدّ ذلك خروجا على ولي الامر، وتشدد على ان نصيحة ولي الأمر لا تكون إلا خاصة له وفِي مجلسه، أي مباشرة من فم “السلفي” الى أذن ولي الأمر.
وهذا يعني واقعا استحالة هذه النصيحة، لان الأرجح أن تنعقل ألسنة من يفترض فيهم إسداؤها، وجلا، قبل النبس ب”النصيحة الخاصة”، أو أن تقطع ان هي انطلقت، وبلغت كلماتها مسامع “ولي الأمر” في “مجلسه الخاص”.
وليس سرا ان بعض دول الخليج التي صدمها الربيع العربي، المعادية للديمقراطية والإصلاح السياسي في الصميم، قد عملت ولا تزال على استخدام التيارات السلفية لتلويث الساحة الإسلامية وقطع الطريق امام اي إصلاح سياسي ممكن.
ففي ليبيا، تم استخدام ما يعرف بالتيار المدخلي السعودي (نسبة لربيع المدخلي) للسيطرة على المساجد والساحات الدينية، وتم تزويده بالسلاح لبث الفوضى والتحارب في ليبيا.
وفِي اليمن، عملت دول الخليج على توظيف القوى السلفية في مواجهة ثورة الشباب اليمني ضد علي عبد الله صالح وتعميق الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة، رغم ما كان يتسم به اليمن من تقاليد تسامح وتعايش بين المذاهب الاسلامية، وخصوصا الزيدية والسنية.
كما تم استخدام السلفيين في سوريا لتلويث الأجواء الدينية والسياسية وتأجيج نيران الحرب الأهلية المستعرة.
ويقدم حزب النور السلفي في مصر اليوم نموذجا مكثفا للوجه المقيت للسلفية السياسية،إذ صار هذا الحزب أداة طيعة بيد النظام المصري والمخابرات الخليجية التي تضخ له المال وتحدد له المواقف بحسب الحاجة، فغدا الدين ألعوبة بيد أصحاب المال والجاه.
بينما غُيِّبت الأحزاب السياسية وحوصرت تحت سلطة الحكم العسكري في مصر، بقي حزب النور السلفي يتصدر المشهد السياسي وتنشط مكاتبه ومقراته على امتداد كامل المدن والنجوع المصرية. وكلما احتاج الجيش الى غطاء ديني وسياسي لتمرير موقف ما، كانوا على أتم الجاهزية لأداء المهمة المطلوبة.
كنت ذكرت في مرات سابقة أن أبلغ الأضرار التي لحقت بالحالة السياسية الاسلامية تمثلت في الاختراق السلفي بقوة المال الخليجي منذ سبعينات القرن الماضي، حتى كادت تغيب الحدود الفاصلة بين قوى الاسلام السياسي والتيارات السلفية.
بل ان هولاء السلفيين المصنّعين على المقاس، بجدالاتهم الفقهية والدينية الصاخبة، قد فرضوا أجندتهم على الحالة الاسلامية الواسعة، التي بات يغلب فيها استدعاء النصوص والأقوال التراثية على فهم الواقع والتبصر به.
وهكذا غدت كتب وخطب “علماء” السلفية، وخصوصا السعوديين منهم، تُروج على نطاق واسع في العالم الاسلامي، على الفضائيات وفِي منابر الجوامع، حتى أمسى التدين قرين المظاهر الشكلية في الملبس، لا تعبيرا عن موقف صادق في الضمير والوجدان يصدّقه السلوك والعمل.
واليوم هاهي السلفيات تصبح منبوذة في الخليج وتَعُدّها نخب الحكم الجديدة عبئا عليها، فتُقلّم أظافرها في الداخل، لكنها تبقي عليها ذراعا ملائما توظفه خارج الساحة الخليجية.
ولعل اكبر الأخطاء التي ارتكبها الاخوان المسلمون في مصر، وكانت من بين الأسباب التي ساهمت في إسقاط ثورة 25 يناير، هي تحالفهم المبكر مع حزب النور السلفي الذي كان يزايد بمقولات تطبيق الشريعة وأسلمة الدستور والقوانين. ثم انقلب عليهم بمجرد ان تحركت أولى الدبابات في شوارع القاهرة.
عِوَض ان يقطع الاخوان مع التيار السلفي ومزايداته الفقهية والدينية ويعملوا على توحيد جبهة القوى المدنية، وخصوصا التيار الشبابي، لمواجهة تحكم الجيش، اذا بهم يتحالفون مع حزب سلفي اخترقته المخابرات المصرية والإقليمية حتى النخاع.
وقد ساهم هذا التوجه في تعميق الاستقطاب الثنائي وبدا الامر وكأنه صراع على الخيارات الأيديولوجية والمجتمعية بين قوى دينية يمثلها الاخوان والسلفيون واُخرى مدنية أو علمانية يمثلها القوميون والليبراليون، بدل ان يكون خط الاستقطاب والفرز بين القوى السياسية المدنية في مواجهة مؤسسة عسكرية تتحكم في مفاصل السياسة والحكم والاقتصاد، في مشهد بالغ البؤس مظهرا وجوهرا.
ثمة حاجة ملحة اليوم للقطع مع التيارات السلفية فكرا وممارسة، ومع تركيزها المفرط على المظاهر والاشكال، ومقولات تطبيق الشريعة وأسلمة الدولة والمجتمع، والتوجه بدلا من ذلك نحو طرح برنامج سياسي واضح لاصلاح الوضع العربي وإخراجه من متاهات الدكتاتورية وانتشاله من أتون الحروب الأهلية.
هذا يعني تحرير الاسلام من ألاعيب السلفيين والحكام المستبدين. وقد يكون الرد الأمثل على ذلك المضي صوب ما اسميه بالليبرالية الاسلامية، التي ينبسط القول فيها في مقالات لاحقة، بإذن الله.
بقلم: سمية الغنوشي