صداقة الفرس والعرب قبل الإسلام وأثرها في الأدب العربي
*1- دفاع الفرس عن اليمن قبل الإسلام وأثر ذلك في الأدب العربي
إنّ الحدود الجغرافية بين الفرس والعرب أكثر من ألف كيلومتر وكانت هاتان الأمّتان جارتين منذ آلاف السنين ومازالتا وقد ربطت بينهما أواصر المحبة والودّ وحسن الجوار قبل الدين الإسلامي الحنيف وبعده،وخير شاهد علي ما نقول،أثر الصداقة الفارسية العربيّة في الأدب العربي قبل الإسلام.
فقد هاجم الأحباش جنوب الجزيرة العربية عن طريق البحر الأحمر وذلك قبل ظهور الدين الإسلامي الحنيف،ودافع الفرس عن العرب هناك حيث كانت تربطهم أواصر المودة مع قبيلة (حِميَر) وهي من القبائل العربية الكبيرة،فقد غبَر الجنود الإيرانيون مياه الخليج الفارسي حتي وصلوا إلي جنوب الحجاز وقضوا علي الأحباش وأنقذوا أبناء حِميَر مما لحقهم من ظلم علي أيدي الأحباش،وذكر المسعودي في كتابه (مُروج الذهب) شعراً لأحد الشعراء الفرس الذين كانوا ينظمون أشعارهم باللغة العربية، ذكر هذا البيت:
نَحْنُ خُضْنا البحارَ حتي فككنا حميراً من بليةِ السودانِ (1)
والمقصود بكلمة (السودان) الأحباش الذين كانت لهم بشرة سوداء.
وقد أعجب البحتري،الشاعر العربي الشهير في القرن الثالث بدفاع الفرس عن حِميَر واليمن وصنعاء وعدن قبل الإسلام فنظم قصيدة غرّاء أثني فيها علي الفرس وذكرها المسعودي أيضاً وننتخب منها هذه الأبيات التي يخاطب فيها البحتري أبناء فارس:
فَكَمْ لَكُم مِن يَدٍ يَزكُوا الثناء بها = ونعمةٍ ذكرها باقٍ علي الزمنِ
إن تفعلوها فليست بِكْرَ أَنعمكُم = ولا يدٌ كأياديكُمُ علي اليمنِ
إذْ لا تَزالُ خيولُ الفُرسِ دافعةً =بالضَّرْبِ والطعنِ عَنْ صنعا وعن عدنِ
أنتم بنو المنعمِ الُمجدي ونحنُ بنو = من فاز منكم بفضل الطول والمِنَنِ(2)
*2- الروم لم يساعدوا العرب أمام الأحباش والتاريخ يعيد نفسه:
إنّ لهجوم الأحباش علي اليمن التي كان يحكمها سيف بن ذي يزن قصة طويلة وفيها عبرة للعرب علي طول التاريخ،فبعد هجوم الأحباش ظن سيف بن ذي يزن أنّ الروم سيساعدونه في طرد الأحباش (ومضي إلي قيصر ملك الروم يستنجده فأقام ببابه سبع سنين فأبي أن ينجده) (3)،ويا للعجب، أن سيف بن ذي يزن أمضي سبع سنين ملتمساً عند باب قصر ملك الروم ولم يسعفه قيصر،وبعد تلك السنين العجاف،رجع سيف بن ذي يزن خائباً، فاتجه إلي بلاد فارس وكان ملكهم أنوشيروان، واستجاب أنوشيروان لما أراده ملك اليمن الذي هجم عليه الأحباش وجهز جيشاً لمساعدة عرب اليمن بقيادة قائد فارسي إسمه: وهرزا صبهذ الديلم (فوجه معه الجيش الفارسي وقائده وهرزا صبهذ الديلم…وحمل الفرس علي الأحباش فانكشفت الحبشة وأخذهم السيف…فقُتل منهم نحو ثلاثين ألفاً) (4).
وابن الأثير الموصلي ذكر هذه الواقعة في كتابه «الكامل في التاريخ» وقال عن دفاع الفرس عن عرب اليمن أمام الأحباش (وحملت الفرس عليهم فلم يكن دون الهزيمة شيء وغنم الفرس من عسكرهم ما لا يُحَدُّ ولا يُحصي) (5).وأضاف ابن الأثير أنّ الجيش الفارسي بقيادة (وهرز) رجع إلي إيران بعد تحرير اليمن من الأحباش،فانتهز الأحباش هذه الفرصة وهجموا مرة أخري علي اليمن ولكن،كان الفرس لهم بالمرصاد،حيث أن (كسري بعث إليهم وهرز في أربعة آلاف فارس وأمره أن لا يترك باليمن أسْوَد) (6) من الأحباش.وقد نظم أحد الشعراء العرب واسمه أبو زمعة (وهو جدُّ أُمية بن الصلت الثقفي) قصيدة مدح فيها دفاع الفرس عن عرب اليمن،وننتخب منها هذه الأبيات التي يطلب فيها الشاعر من سيف بن ذي يزن أن ينتقم من الأحباش الذين جاءوا إلي اليمن عبر البحر الأحمر:
لِيَطْلب الوتر أمثالُ ابنِ ذي يزنِ = في لُجَّةِ البحرِ أحوالاً وأحوالا
حَتّي أَتي ببني الأحرارِ يَحْمِلُهُم = تَخالُهُم في سَوادِ اللَّيلِ أَجبالا
لِلّهِ درُّهُمْ من عصبةٍ خَرَجُوا = مَا إِنْ رَأَيتَ لَهُمْ في النّاسِ أَمثالا (7)
وأمّا الموسوعة العربية المعروفة باسم (الموسوعة العربيّة الميسّرة) فقد ذكرت هذا الدفاع العظيم من الفرس عن العرب بقولها: (سيف بن ذي يزن… بسط سلطانه علي أرض أجداده في ظلِّ الحماية الفارسيّة، ويرجّح الباحثون إلي أن انتصاره هذا يمكن أن يرجع إلي سنة 570 م أو نحوها…وكان الصراع بين العرب وبين الأحباش والزنوج.وسيف بن ذي يزن كان يؤمن بالتوحيد) (8).
أما دائرة المعارف التي نشرها بطرس البُستاني في لبنان فقد ذكرت هذه الواقعة التاريخية المهمة وقالت عن آخر فصل فيها إنّ القائد الفارسي (وهرز) (لمّا استتبَّ الأمر كتب إلي كسري فأمر أن يُملّك سيف بن ذي يزن) (9).وختم المسعودي حديثه عن هذه الواقعة العظيمة بقوله إنّ علي بوابة مدينة ظفار في جنوب الحجاز أشعاراً كانت علي حجر كبير وفيها هجاء للأحباش ومديح للفرس ومنها هذه المقاطع (حِمْيَرُ الأخيارُ، والأَحباشُ الأشرارُ، وفارسُ الأحرارُ) (10).إنّ ما ذكرنا هو صفحة من تاريخ العلاقات الطيبة والوطيدة بين الفرس والعرب قبل الإسلام، وكما قلنا: إنّ التاريخ يعيد نفسه فإذا كان سيف بن ذي يزن قد أمضي سبع سنين عجاف وهو يلتمس عند باب قصر ملك الروم لمساعدته ولم يساعده فالعرب في التاريخ المعاصر قد أمضوا أكثر من خمسين عاماً وهم ينتظرون مساعدة أميركا وأوروبا.
*3- رابطة المودة بين بعض الشعراء والأدباء العرب والفرس قبل الإسلام:
ذكرت التواريخ أسماء بعض الشعراء والخطباء العرب الذين كانت لهم أواصر المحبة مع الفرس قبل الإسلام،ومنهم:
1 غيلان بن سلمة الثقفي، وكان شاعراً وتاجراً وكان يذهب ببضاعته إلي الفرس، وجاء في كتاب (قصص العرب) أن هذا الشاعر التاجر كان قد جاء ببضاعته إلي كسري،فضيّفه (ثمّ اشتري منه التجارة بأضعاف ثمنها، وكساه،وبعث معه من الفرس من بني له اُطماً أي قصراً بالطائف فكان أول اُطمٍ بُني بها) (11).
2- الأعشي وهو أشهر من أن يُذكر وقد جاء إلي إيران عدة مرات بأشعاره العربية،وقالت عنه موسوعة المورد:(وفد على ملوك فارس فمدحهم،وسار شعره العذب علي الألسنة) (12)،وقال عنه المحقق النجفي الحمامي (قصد ملوك الساسانيين فأثابوه وأجزلوا له العطاء والجوائز والهبات) (13).
زمزمتِ الفرسُ علي زمزمِ وذاك من سالفها الأقدمِ (16)
5- الحارث الطبيب والخطيب وهو من أهل الطائف وكان (سافر إلي فارس وتعلَّم الطب) (17)،وألقي خطابة مسهبة أمام كسري عن الأغذية والأدوية وذكرت في كتاب (قصص العرب) في أربع صفحات،وقال له كسري: (للّه ِ درك من أعرابي،لقد أُعطيت علماً وخُصصتَ فطنةً وفهماً) (18).
وأما الصداقة الفارسية العربية بعد الدين الإسلامي الحنيف وخدمات العرب الفرس للدين الإسلامي العظيم بإيمان وإخلاص ذُكرت في مئات الكتب وهي معروفة، واللّه ولي التوفيق.
*4- وماذا عن شابور ذي الأكتاف؟
لا شك أنّ الساسانيين كانوا طغاة وظلمة،وشابور ذو الأكتاف الذي كان يعدم لا بالسيف ولا بالشنق بل بثقب الأكتاف،شابور هذا هو أكثر الساسانيين ظلماً وطغياناً،وشابور هذا وبقية الساسانيين ظلموا الفرس كما ظلموا العرب،ولكن؟قد كان بين الساسانيين من نشأ بين العرب كبهرام جور الذي كان ينظم الأشعار العربية ويعطف علي العرب وذكر المسعودي بعض أشعاره العربية ومواقفه في بحثه الخاص ببهرام جور في كتابه (مروج الذهب) وكان بين الساسانيين من ساعد أهل اليمن وذكرنا هذا بصورة مفصّلة،وكان بين الساسانيين من يرحّب بالشعراء والأدباء العرب،وكان بين الساسانيين من يذهب إلي بيت اللّه الحرام ويقدّم الهدايا إلي الكعبة الشريفة،ولا يمكن أن نتغاضي عن هذه الحقائق أو ننكرها وإذا كان شابور ذو الأكتاف مجرماً ومجحفاً وظلوماً وغشوماً فلا تزر وازرةٌ وزر أخري. صدق اللّه العليُّ العظيم.
*5- قصيدة خاصة بالصداقة الفارسية العربية:
نظم كاتب هذا التحقيق هذه القصيدة عن الصداقة الفارسية العربية قبل الإسلام وبعده وهي بوزن الرجز:
صداقةُ الفرسِ وقومِ العرب = تاريخها خُطَّ بماءِ الذَّهَبِ
فقبل دين المصطفي وبعدهُ = أواصِرٌ وانعكست في الأدبِ
وتشهدُ الأشعارُ فيما قد جري = وتشهدُ الأخبارُ بين الكُتُبِ
إِذْ هاجَمَ الأحباشُ أهلَ اليمنِ = والرومُ ما دافعوا يا لَلعجبِ
لكنّما الفرسُ بآلافٍ مَضوا = لحربِ غازٍ ظالمٍ مُغْتَصبِ
فالحربُ مثلُ الليلِ والفرسُ لهم = تلكَ السيوفُ والقنا كالشُّهُبِ
وهكذا الفرسُ قضوا في حربهِم = علي خُصومِ العُرْبِ يوم الرِّيَبِ
فحطَّموا الأحباشَ في حملتِهِمْ = فالفُرس كالأُسدِ بسوحِ الغَضَبِ
وبعدَ دينِ المصطفي قد آمنوا = به وقد نالوا عظيمَ الرُّتَبِ
سلمانُ مِنْ آل الرسولِ قَد غَدا = بِفَضْلِ إيمانِهِ لا بالنَّسبِ
والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
المصادر :
1. المسعودي، مُروج الذهب، طباعة دار الهجرة، ج 2، ص 57.
2. المصدر السابق، ص 58.
3. المصدر نفسه، ص 54.
4. المصدر نفسه، ص 54 وص 56.
5. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، طبعة بيروت، 1408 ه . ق، ج 1، ص 288.
6. المصدر السابق، ص 289.
7. المسعودي، مُروج الذهب، ج 2، ص 59.
8. الموسوعة العربية الميسرة، طباعة دار الجيل التابعة للجمعية المصرية لنشر المعرفة، سنة 1416 ه . ق، ج 1، ص 1049.
9. البستاني، بطرس، دائرة المعارف، بيروت، ج 10، ص 335 و 336.
10. المسعودي، مروج الذهب، ج 2، ص 63.
11. قصص العرب (تأليف عدد من الأساتذة المصريين)، طبع دار احياء الكتب العربية، سنة 1381 ه . ق، ج 1، ص 19.
12. البعلبكي، منير، موسوعة المورد، بيروت، سنة 1981 م، ج 5، ص 163.
13. الحمامي، سيد محمد علي، المطالعات في مختلف المؤلفات، طبعة النجف الأشرف، ص 21.
14. المسعودي، مروج الذهب، ج 2، ص 97.
15. المصدر السابق، ج 1، ص 265.
16. المصدر السابق.
17. قصص العرب، ج 1، ص 126.
18. المصدر السابق، ص 130.
* مدير القسم العربي في كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية في جامعة الشهيد چمران الأهواز